ساحة الرأي

حين يسكننا التفكير بدلًا من أن نسكنه

بقلم: د/ ميرڤت عبدالرحمن
استاذ القانون الدولي
رئيس مجلس ادارة اكاديمية جلوري

أحيانًا لا تكون المشكلة في ما نمرّ به، بل في الطريقة التي نفكر بها نحوه.
فكثيرًا ما يتجه الإنسان بفكره إلى المشكلة، لا ليبحث عن مخرج، بل ليعيش داخلها. يبدأ بالتفكير وهو يظن أنه يحلل الموقف ويبحث عن الحل، لكن مع مرور الوقت، يتحول هذا التفكير إلى دوامة لا تنتهي، يكرر فيها الأفكار ذاتها والذكريات نفسها والمخاوف التي لا تتغير.

حينها يصبح الفكر كأنه غرفة مغلقة يدخلها الإنسان بنفسه ويغلق الباب عليه، فيعيش في ظلامها وهو يظن أنه ما زال يحاول أن يجد النور.
وهنا تبدأ المعاناة الحقيقية، ليس من حجم المشكلة، بل من عمق الغرق فيها.

الإنسان بطبيعته كائن مفكر، وهذه نعمة عظيمة، لكن التفكير الزائد بلا توجيه قد يتحول إلى عبء. عندما يسكن الفكر داخلنا ولا نملك السيطرة عليه، يصبح هو من يقودنا، فيزيد من قلقنا وتوترنا، ويجعلنا نعيد المشهد في عقولنا ألف مرة دون خطوة واحدة نحو الحل.

الفكر يجب أن يكون وسيلة، لا مأوى.
حين أتعامل مع المشكلة بعقل منفتح وهادئ، أبدأ في رؤية الأمور بوضوح، وأتعلم أن التوقف المؤقت عن التفكير المرهق ليس هروبًا، بل استراحة ضرورية تتيح لي أن أرى الصورة من بعيد.
في تلك المسافة القصيرة بين الهدوء والتفكير، تنشأ القدرة على الفهم، ومن الفهم يولد الحل

إن تسليم النفس للمشكلة يجعلنا نعيش في عالم من الاحتمالات السلبية، بينما التفكير الهادف يقودنا إلى التوازن.
الفرق بين الاثنين هو نية التوجه:
هل أفكر لأعيش داخل المشكلة، أم أفكر لأخرج منها؟

الحياة مليئة بالمواقف الصعبة، ولن نستطيع إيقاف التحديات، لكن يمكننا أن نتعلم كيف نتعامل مع أفكارنا تجاهها.
أن نُدرك أن التفكير لا يجب أن يكون عذابًا، بل وسيلة للوعي والنضج.
فحين نتوقف عن مقاومة أفكارنا ونبدأ في فهمها، نتحرر منها.

وفي النهاية، لا ينتصر الإنسان على مشاكله حين يحلها فقط، بل حين يتعلم كيف يفكر نحوها بطريقة صحيّة.
وحين يختار أن يسكن فكره هو، لا أن يسكنه الفكر.

تذكّر دائمًا أن الطريق لا يبدأ حين تزول المشكلة، بل حين تختار أن تواجهها بعقلٍ هادئ وقلبٍ مؤمن أن لكل شيء حلاً مهما بدا بعيدًا.
لا تجعل فكرك سجنك، بل اجعله وسيلتك للخروج إلى النور.
كل لحظة وعي هي خطوة نحو التوازن، وكل مرة تُمسك فيها بخيط التفكير الهادئ، تقترب أكثر من نفسك الحقيقية.
ابدأ من جديد، ولكن هذه المرة لا تفكر لتغرق… بل فكّر لتتعافى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى