مصر والجغرافيا.. قراءة في بوصلة الأمن القومي من النيل إلى غزة

بقلم: اللواء/ أحمد زغلول مهران
نائب رئيس حزب المؤتمر – رئيس الهيئة العليا للحزب
مستشار مركز رع للدراسات الاستراتيجية
في زمن تتشابك فيه الجغرافيا بالمصالح، وتُبعث فيه الخرائط القديمة بأدواتٍ جديدة، تبقى مصر حجر الأساس الذي تتكئ عليه معادلات الاستقرار في الإقليم ليس من قبيل التوصيف السياسي الرنان بل نقول أن الأمن القومي المصري يُعاد رسمه بالنار والوعي، على خطوط النيل، وسيناء، وشرق المتوسط ،بل هي الحقيقة التي تفرض نفسها على أرضٍ تُطوّقها التحديات من كل اتجاه،
منذ عقود، تعلّمت مصر أن الأمن القومي ليس صفحه في كتاب استراتيجي، بل ممارسة يومية تبدأ من أصغر قرية على ضفاف النيل ، ولا تنتهي إلا في دهاليز القرار الأممي واليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تجد الدولة نفسها أمام لوحة شديدة التعقيد، ترسمها سدود في أعالي النيل، ومخططات توطين خلف المعابر، وسُحب رمادية تتكاثف على حدود ليبيا والسودان واليمن وسوريا ولبنان ،فكيف نقرأ البوصلة؟ وما هي الرؤية المصرية لهذا المشهد المعقّد؟ وما السبيل للحفاظ على قوة الردع والتوازن دون الانزلاق نحو العواصف المفتوحة؟
أولاً : غزة وسيناء خط النار وخط السيادة
إن التحدي الأكثر سخونة يأتي من الشرق ففي ظلّ حرب طاحنة تشهدها غزة، بدأت بعض الأصوات – من خارج السياق الإقليمي – تُلمّح إلى سيناريوهات نقل أو إعادة توطين للفلسطينيين داخل سيناء، تحت شعارات إنسانية خادعة تلك الطروحات، مهما تزيّنت بمفردات السلام، تُعد اختراقاً واضحاً لجدار السيادة المصرية، وخرقاً لمبادئ الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني
مصر، برئاسة الدولة ومؤسساتها ، رفضت هذه الأطروحات بصرامة لا تقبل التأويل فسيناء ليست منفىً بديلاً وغزة ليست عبئاً على أحد، بل أرضٌ لشعبٍ يقاوم، ويحق له أن يعيش عليها بكرامة الرسالة كانت واضحة
لا توطين، لا تهجير، ولا تسويات على حساب السيادة أو القضية
ثانياً : النيل عندما يصبح الماء سلاحاً
على الجانب الجنوبي، تأتي أزمة سد النهضة الإثيوبي كأحد أخطر الملفات التي تواجه مصر في تاريخها الحديث الأزمة لم تعد خلافاً تنموياً أو تقنياً ، بل تحوّلت إلى اختبارٍ حقيقي لإرادة دولة تمتلك تاريخيا ًمائياً عريقاً وحقاً مكتسباً في شريان حياتها الأزلي ،مصر لم ترفض التعاون أو التنمية، بل دعمت حقوق الشعوب في استخدام مواردها لكنها، في المقابل، لا تقبل بسياسة الأمر الواقع أو فرض المشيئة المنفردة في ملف يهدد حياة أكثر من 100 مليون مواطن فالنيل ليس مجرىً مائياً فقط، بل قضية أمن قومي، لا تقبل المساومة أو التراخي ،من هنا جاءت دعوات القاهرة المتكررة لاتفاق قانوني ملزم، واضح، متوازن، يضمن لإثيوبيا التنمية، ويصون لمصر والسودان الحقوق التاريخية في المياه وبالرغم من مراوغات أديس أبابا، لا تزال مصر تسلك طريق التفاوض بالقانون الدولي، دون أن تسقط من حساباتها جميع الخيارات الممكنة للدفاع عن وجودها المائي.
ثالثاً : الحزام الامنى المشتعل ليبيا، السودان، اليمن، سوريا، لبنان
إن جغرافيا الأمن المصري لا تتوقف عند حدود الدولة، بل تمتد لتُشكل ما يمكن وصفه بالحزام المشتعل، حيث تتداخل السياسة بالسلاح، وبالخرائط.
في ليبيا، لا تزال الميليشيات والفراغ السياسي تهديداً متجدداً على الجبهة الغربية، ما يفرض يقظة استخباراتية دائمة، وتنسيقاً وثيقاً مع القبائل والقوى الوطنية الليبية.
في السودان، الصراع المحتدم بين الجيش والدعم السريع ينذر بأزمات حدودية وأمنية وإنسانية، تتعامل معها مصر بقدر كبير من الحذر والمساعدة، دون الانخراط في لعبة الاستقطاب.
في اليمن، حيث يتقاطع أمن البحر الأحمر مع صراعات الداخل، تحرص مصر على حماية خطوط الملاحة وقناة السويس، عبر دعم الاستقرار وردع التمدد الإقليمي المعادي.
أما في سوريا ولبنان، فالأزمات المتلاحقة ، من فراغ السلطة إلى تغوّل الميليشيات الموالية لقوى غير عربية إلى تفتح ثغرات في جدار الأمن القومي العربي، ترى مصر ضرورة إغلاقها عبر دعم وحدة الدولة ومركزيتها، ورفض مشاريع التقسيم أو الهيمنة الطائفية.
رابعاً : الداخل المصري الحصن الأول
في خضم هذه التحديات، أثبتت الجبهة الداخلية المصرية صلابتها المذهلة الشعب الذي خاض معارك البقاء لعقود، صار أكثر وعياً بخطورة الحرب المعلوماتية، التي تُحاول بث الشك والفرقة باسم الحرية والحقوق.
نجحت الدولة في تفكيك شبكات الكراهية الإلكترونية، وأعادت صياغة معادلة الثقة بين المواطن والمؤسسات لكن المعركة لم تنتهِ بعد ،فالإرهاب لم يمت، والتآمر لا يزال يجد منصات خارجية تستضيفه، وتدعمه، وتستخدمه كورقة ضد مصر القوية.
خامسآ : رؤيتنا أمن قومي مرن وحاسم
تقوم رؤية مصر للأمن القومي على عدة أعمدة متينة:
- السيادة غير القابلة للتفاوض:
لا تنازل عن الأرض، لا قبول بإملاءات، ولا مساومة على القرار الوطني.
- الردع الذكي والمتوازن:
مصر لا تسعى إلى التصعيد، لكنها لن تقبل بالضغوط أو الابتزاز، وتملك خياراتها السيادية.
- العمق الإقليمي الفاعل:
الأمن المصري لا يُبنى داخل القاهرة فقط، بل يُصان في طرابلس، والخرطوم، وجوبا، وعدن، وبيروت.
- الشعب الواعي الحصيف: الاستثمار في وعي المواطن هو أقوى سلاح لمواجهة الإعلام المعادي والتضليل.
-
التحالفات المتوازنة:
مصر لا تنحاز إلا لمصالحها، ولا تفرّط في علاقاتها إلا إذا خُدشت سيادتها أو كُسرت قواعد الاحترام المتبادل.
مصر صامدة وقادرة
بين ضفّتي النيل، وبين ألسنة النار في غزة والخرطوم وطرابلس، تقف مصر بشموخها المعتاد لا تفرّط، لا تنكسر، ولا تُخدع بشعارات العالم المزدوج
هي تقاتل وتبني، تُفاوض وتُمسك بالزناد، تنفتح حين تقتضي الحكمة، وتُغلق الأبواب حين يُستهدف وجودها.
ومَن يعرف تاريخ هذا الوطن، يُدرك أن الأمن القومي ليس قراراً ادارياً، بل عقيدة تسري في النيل، وفي الأرض، وفي دماء أبنائه.
تحيا مصر لأنها لا تعرف إلا الحياة