ساحة الرأي

الخزان النوبي العظيم.. الكنز الغائر بين التنمية المستدامة والتحديات العابرة للحدود

رؤية استراتيجية تنموية شاملة لمورد مائي غير متجدد

بقلم: لواء/ د. أحمد زغلول مهران
رئيس الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية
رئيس مركز دعم الإبداع والابتكار والوعي المجتمعي

١- حينما تصبح الصحراء كنزاً مائياً

في خضم التحديات المتزايدة التي تواجه الأمن المائي المصري والعربي يبرز الخزان الجوفي النوبي العظيم كأحد أعمدة الأمل في توفير مصدر مائي استراتيجي يعزز من قدرة الدولة المصرية على مواجهة ضغوط ندرة المياه وتغير المناخ والنمو السكاني
يمتد هذا الخزان الذي يُعد من أضخم الخزانات في العالم عبر أربع دول هى مصر وليبيا والسودان وتشاد على مساحة تفوق 2.4 مليون كيلومتر مربع وداخل الحدود المصرية وحدها يغطي قرابة 670 ألف كيلومتر مربع من الصحراء الغربية .

التنمية لا تنفصل عن الجغرافيا فإن إعادة الاعتبار لهذا الخزان لا يُعد فقط محاولة لتوفير المياه بل هو تأسيس لمحور تنموي وطني يربط بين العلم والاقتصاد والمجتمع والاستدامة .
وفي هذا التقرير نطرح رؤية استراتيجية مستلهمة من كتاب “الخزان النوبي العظيم – محور التنمية الغربي الجديد” للدكتور/ عمرو الهلالي والذي قدم نموذجاً يُثري التفكير التنموي حول كيفية استخدام هذا المورد بحكمة ليكون رافعة للنمو لا عبئاً بيئياً .

٢- الخلفية التاريخية والعلمية للخزان النوبي

تم الإعلان عن الخزان الجوفي النوبي رسمياً في أواخر خمسينات القرن العشرين حين بدأ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في إطلاق مشاريع التنمية في الصحراء الغربية ضمن ما عُرف بوادي موازٍ للنيل وقد تتابعت منذ ذلك الحين الدراسات الفنية أبرزها دراسات شركة “بارسون” البريطانية والمكتب الإيطالي “بيروكورا”والتي أظهرت أن الخزان يمتاز بسماكات متفاوتة تتراوح بين 800 و2000 متر وخصائص جيولوجية معقّدة تتطلب تخطيطاً علمياً دقيقاً وحتى يومنا هذا لا تزال إمكانيات هذا الخزان محل دراسة علمية دقيقة خصوصاً مع تزايد الاعتماد عليه في مشاريع مثل “المليون ونصف المليون فدان” حيث تُعدّ الآبار التي تستخرج مياهها من هذا الخزان الركيزة الأساسية لتوفير المياه لهذه المشروعات .

٣- ما الجديد في الرؤية؟ قراءة في كتاب “الخزان النوبي العظيم”

ينفرد كتاب د. عمرو الهلالي بكونه ليس فقط دراسة جيولوجية أو هيدرولوجيه بل رؤية تنموية شاملة تُعيد تعريف العلاقة بين الخزان النوبي ومفهوم “محور التنمية الغربي”.
يشير المؤلف إلى أن الصحراء الغربية المصرية بقدر ما تبدو جافة فإنها تختزن إمكانيات هائلة يمكن توظيفها لبناء مجتمع زراعي صناعي وسكاني متكامل إذا ما أُحسن استغلال مورد الخزان الجوفي .

من أبرز ما يميز الرؤية في هذا الكتاب :
• التشديد على أن مياه الخزان غير متجددة وبالتالي يجب استخدامها على أساس استراتيجي مدروس وليس كحل مؤقت .
• الدعوة إلى إنشاء مجتمعات زراعية مستدامة تعتمد على المياه الجوفية كجزء من منظومة إنتاجية متكاملة لا تستهلك المياه بلا وعي .
• التحذير من الاستخدام العشوائي أو السياسي للخزان والذي قد يؤدي إلى تدهور المورد وتراجع جدواه البيئية والاقتصادية .

٤- أهمية الخزان النوبي للتنمية المصرية

• دعم الأمن المائي الوطني

مع تناقص حصة مصر من مياه نهر النيل وتزايد الاحتياجات المائية في الزراعة والصناعة والسكان يمثل الخزان النوبي صمام أمان حيوي يمكن أن يدعم تحقيق الأمن المائي في الأجلين القصير والمتوسط إذا ما أُدير وفق أسس علمية .

• تعزيز التوسع الزراعي في الصحراء

تستند مشروعات عملاقة مثل مشروع المليون ونصف المليون فدان على المياه الجوفية وخصوصاً من الخزان النوبي ففي ظل محدودية الأراضي القابلة للزراعة في وادي النيل تُصبح الصحراء الغربية البديل الوحيد القادر على استيعاب التوسع الزراعي الحقيقي .

• تحفيز التنمية الصناعية وتوطين السكان

مع توفير المياه يمكن تشجيع الاستثمارات الصناعية خصوصاً في مجالات الصناعات الغذائية والتغليف والتصنيع الزراعي كما يشجع ذلك على توزيع السكان بشكل متوازن وتقليل التكدس الحضري .

٥- التحديات الرئيسية أمام استغلال الخزان

رغم ما يحمله الخزان من وعود إلا أن استغلاله يواجه تحديات كبيرة تشمل :
• التحديات الجيولوجية:
اختلاف السماكات وصعوبة الوصول لبعض المناطق والتلوث الجوفي في بعض المواقع .
• الجدوى الاقتصادية:
ارتفاع تكلفة الحفر والصيانة والطاقة .
• البيئة والاستدامة:
انخفاض معدلات التجديد الطبيعي خطورة التلوث من الزراعة أو الأنشطة الصناعية .
• القانون والتنسيق الدولي:
لا بد من احترام حقوق الدول المشاركة في الخزان وعدم الإضرار بها .
• نقص الدراسات الحديثة:
تحتاج الحكومة لتحديث كامل لخريطة الإمكانات الفعلية .

٦- مقترحات عملية – مستلهمة من كتاب “الخزان النوبي العظيم”

أ- إنشاء مناطق زراعية تجريبية
• تحديد مناطق تجريبية في الصحراء الغربية لاختبار آليات الاستغلال المستدام للخزان باستخدام تقنيات الزراعة الذكية .
• تفعيل وحدات مراقبة ميدانية لرصد مستوى المياه ونسبة الملوحة وتقييم التأثير البيئي .

ب- الاعتماد على الطاقة المتجددة
• تشغيل مضخات الآبار عبر الطاقة الشمسية لتقليل التكلفة والاعتماد على مصادر الطاقة .
• دعم الصناعات المرتبطة باستخدام الطاقات النظيفة في مناطق الزراعة الجديدة .

ج- تشريعات صارمة للاستخدام
• سنّ قانون لاستخدام المياه الجوفية يتضمن:
حدود الاستخدام السنوية تراخيص الحفر وتحديد عقوبات على الاستخدام الجائر ووضع آلية مراقبة مركزية .
• تأسيس هيئة مستقلة لإدارة الموارد الجوفية تضم ممثلين من الوزارات المختصة والجامعات والمجتمع المدني .

د- ربط التنمية المائية بالتنمية المجتمعية
• إدماج المجتمعات المحلية في مراقبة استغلال الآبار وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية المحافظة على هذا المورد .
• إنشاء برامج تدريب ميداني لمزارعي المناطق الجديدة على أساليب الري الحديثة ومراقبة جودة المياه .

هـ- تطوير البنية التحتية الذكية
• بناء شبكات أنابيب مقاومة للهدر ومحطات تنقية ومراكز مراقبة المياه في الوقت الفعلي .
• تصميم منظومات نقل مياه ذكية من مواقع الحفر إلى الأراضي الزراعية مع تقييم مستمر للفواقد .

و- تنسيق إقليمي فعال
• تفعيل دور الهيئة المشتركة لخزان الحجر الرملي النوبي وتحديث الاتفاقيات بين مصر وليبيا والسودان وتشاد لضمان عدالة التوزيع وعدم استنزاف المخزون بشكل أحادي واهمية تشجيع مشروعات بحثية مشتركة وتبادل قواعد البيانات الفنية والبيئية .

٧- التمويل والفرص الاستثمارية
• فتح الباب أمام شراكات بين القطاع العام والخاص لتمويل الآبار وتشغيل المحطات وإنشاء مناطق إنتاج متكاملة .
• استغلال أدوات التمويل الدولية مثل الصندوق الأخضر للمناخ والبنك الإسلامي للتنمية والبنك الدولي لدعم التحول نحو زراعة ذكية قائمة على المياه الجوفية .
• تقديم حوافز ضريبية وتشريعية لجذب المستثمرين للمشاركة في هذه المشروعات الاستراتيجية .

٨- نحو استراتيجية وطنية شاملة

في ضوء المعطيات الفنية والاقتصادية والبيئية يصبح من الضروري أن تتبنى الدولة استراتيجية وطنية متكاملة لإدارة واستغلال الخزان الجوفي النوبي تتضمن الأبعاد الآتية :

أ- التحديث الشامل للمسح الهيدروجيولوجي
• تنفيذ خرائط حديثة تعتمد على تقنيات الاستشعار عن بُعد والتحليل الجيوفيزيائي ثلاثي الأبعاد لتحديد التوزيع المكاني للسعة التخزينية والسماكة ومستويات الملوحة ومعدلات التجدد الجوفي .
• تكوين قاعدة بيانات رقمية متاحة لصانعي القرار تضم جميع نتائج الدراسات السابقة والمحدثة .

ب- التشغيل التجريبي في مناطق مختارة
• إطلاق مشروعات تشغيل تجريبي في الواحات الخارجة والداخلة والفرافرة وبعض المناطق الحدودية لقياس فعالية التكنولوجيا المستخدمة في حفر وتشغيل الآبار والتحكم في الفاقد المائي وتقييم الأثر البيئي .

ج- الربط بين المياه والطاقة والزراعة
• اعتماد نموذج “المياه – الطاقة – الغذاء” كإطار متكامل بحيث ترتبط الآبار الجوفية بأنظمة طاقة شمسية أو رياح وتُستخدم المياه في زراعات مستهدفة ذات جدوى عالية واستهلاك منخفض .
• إدخال مفاهيم الاقتصاد الدائري والزراعة منخفضة الأثر لتعظيم الفائدة وتقليل الفاقد .

د- منظومة تشريعية وتنظيمية موحدة
• تعديل وتحديث قوانين المياه الجوفية لتشمل :
ضوابط التراخيص وتسعير المياه ورصد العدادات والعقوبات على المخالفين ودور الدولة في الرقابة .
• استحداث هيئة قومية عليا باسم “الهيئة الوطنية لإدارة الخزان النوبي” تضم مختصين من الوزارات المعنية والجامعات والمجتمع المدني والمستثمرين .

هـ- دمج المجتمع المحلي
• تعزيز دور السكان المحليين في تشغيل الآبار وصيانة المعدات ومراقبة جودة المياه ووتحديد المشكلات الفنية أو البيئية .
• توفير برامج تدريبية وشهادات معتمدة لأبناء هذه المناطق في مجالات المياه والزراعة الذكية وأنظمة الطاقة المتجددة وتقنيات المسح .

و- إعداد خطط للطوارئ والتغيرات المناخية
• تضمين سيناريوهات مستقبلية للتغير المناخي في إدارة الخزان الجفاف وزيادة معدلات التبخر وتحرك الكثبان الرملية والهبوط الأرضي .
• تصميم نظم إنذار مبكر لرصد التغير في المنسوب الجوفي أو مؤشرات التلوث أو الانخفاض السريع في الكفاءة الإنتاجية .

٩- التوصيــات الاستراتيجية

استناداً إلى ما سبق يوصي هذا التقرير بما يلي :
أ- إطلاق مشروع قومي لتحديث قاعدة البيانات الهيدروجيولوجية للخزان النوبي باستخدام أحدث تقنيات الاستشعار والتحليل الرقمي .
ب- تأسيس الهيئة الوطنية لإدارة الخزان النوبي تكون مسؤولة عن التخطيط والتنسيق وإصدار التراخيص ومراقبة الاستهلاك .
ج- تحديد أولويات الاستغلال الجغرافي عبر خرائط إمكانات المياه وتكلفة الضخ وجودة المياه لتفادي استثمارات غير مجدية .
د- اعتماد الطاقة الشمسية كخيار رئيسي لتشغيل آبار المياه وتقليل الاعتماد على الشبكات التقليدية .
هـ- إجراء دراسات جدوى مالية واقتصادية دقيقة قبل تنفيذ أي مشروع زراعي يعتمد على الخزان.
و- تعزيز التعاون الدولي بين مصر وليبيا والسودان وتشاد عبر الهيئة المشتركة لضمان الاستخدام العادل وعدم الإضرار بالمشتركين في المورد .
ز- سنّ قانون موحّد لاستخدام المياه الجوفية في مصر يحدد الاستخدامات يعاقب التجاوزات ويشجع على الابتكار .
ح- إدراج ملف الخزان النوبي في الاستراتيجية القومية للمياه 2050 وربطه بمشروعات التنمية الإقليمية خصوصاً في مناطق الجنوب والغرب .
ط- تشجيع الاستثمار الخاص والمختلط في مشروعات زراعية وصناعية تعتمد على المياه الجوفية وتحقق عائداً مستداماً .
ح- تفعيل الوعي المجتمعي والإعلامي حول خطورة استنزاف المياه الجوفية وأهمية إدارتها المستدامة .

فى النهايه .. ان الكنز المائي وهو الخزان الجوفي النوبي العظيم ليس فقط مورداً مائياً ضخماً بل هو أصل تنموي استراتيجي قادر على إعادة رسم الخريطة الجغرافية والاقتصادية لمصر والصحراء الغربية بوجه خاص
لكن مثل كل الموارد غير المتجددة تكمن خطورته في إساءة الاستغلال أو غياب الرؤية العلمية والإدارية الواضحة ما قد يؤدي إلى تحوّله من فرصة إلى عبء ومن مكسب إلى أزمة .
نحن بحاجة إلى رؤية متكاملة لا ترى في المياه الجوفية حلاً مؤقتاً بل استثماراً طويل الأجل في بنية تنموية شاملة تبدأ من حفر البئر وتنتهي عند بناء مجتمع إنتاجي مستدام .

إنّ التنسيق بين الجهد العلمي والتخطيط الحكومي والدعم المجتمعي والتعاون الإقليمي هو السبيل الوحيد للحفاظ على هذا الكنز ليبقى مصدراً للحياة لا للتهديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى