محطات في حياتي.. المحطة الخامسة: على سلالم البيت دوّى النصر!
مشهد من قلب حلوان يوم السادس من أكتوبر 1973

بقلم: اللواء د. أحمد زغلول مهران
رئيس الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية
رئيس مركز الإبداع والابتكار والوعى المجتمعى
بين صوت البيان وصوت الوطن
في حياة الأمم والشعوب لحظات فاصلة يصعب اختزالها في كلمات مهما بلغت من القوة والبلاغة لحظات تتوقف فيها عقارب الساعة ويعلو فيها صوت الوطن على كل صوت فتُولد من رحمها أجيال جديده يتشكل وعيها على أنقاض جراح الماضى وتتجذر في أرواحها قيم العزة والكرامة والانتماء
السادس من أكتوبر لعام 1973 هو أحد تلك الأيام التي لا يمر عليها الزمن بل تزداد تألقاً في الذاكرة الوطنية كلما ابتعدنا عنها في التقويم وقد شاء القدر أن أكون شاهداً عليها لا من موقع المسؤولية أو القيادة العسكرية حينها ولكن من موقعٍ أكثر صدقاً وإنسانية طفل في التاسعة من عمره عائد من مدرسته في حي حلوان ليجد نفسه وسط لحظة وطنية خالصة تشبه المعجزة .
اليوم وبعد مرور أكثر من خمسة عقود على هذا الحدث الجلل أكتب هذه السطور لا بوصفها مجرد ذكريات شخصية بل باعتبارها شهادة حيّة وتجربة وطنية نابضة ونموذجاً تربوياً يمكن بل يجب أن يُدرّس للأجيال القادمة في مدارسهم وجامعاتهم ليعرفوا أن الكرامة لا تُورث بل تُنتزع وأن النصر لا يُهدى بل يُصنع .
مشهد البداية طفل في التاسعة •• في مدرسة العائلة المقدسة
كنت طالباً في الصف الرابع الابتدائي بمدرسة العائلة المقدسة للبنين بحلوان إحدى المدارس العريقة التي جمعت بين التميز الأكاديمي والانضباط الأخلاقي صادف أن يوم السادس من أكتوبر كان يوافق العاشر من رمضان شهر الصيام والصبر فأتممنا اليوم الدراسي في تمام الساعة الثانية وأربعين دقيقة بعد الظهر كما هو معتاد في رمضان .
خرجت من المدرسة وسط زملائي وكانت حرارة الشمس لطيفة على غير العادة وكأنها تستعد لاستقبال حدث عظيم لم يكن في الأفق ما يُنذر بأن يوماً غير عادي ينتظرنا سوى تلك الحركة غير المعتادة في الشوارع وشعور غريب بالإلحاح في خطواتي نحو البيت .
وصلت إلى منزلنا في الساعة الثانية وخمس وخمسين دقيقة كانت والدتي رحمها الله في المطبخ تُعدّ طعام الإفطار بحرفية لا تضاهيها شيفات اليوم كانت سيدة مصرية أصيلة طاهية بارعة ربة منزل حقيقية رغم كونها امرأة عاملة وأنا وشقيقي كنا نحب أن نراقب خطواتها في الطهي ليس فقط بدافع الجوع بل لأن المطبخ كان المكان الذي تتجلى فيه روحها ودفء قلبها .
في زاوية المطبخ كان هناك راديو صغير يعمل باستمرار يرافقها كأنه صديق صامت لا يخون وبينما كنا نتابعها انقطع فجأة صوت الأغاني المعتادة وحلّ محله صوت جاد عسكري الطابع جعل أمي تضع الملعقة جانباً وتقترب من المذياع .
لحظة البيان •• الجيش يعبر القناة
ثم جاء الصوت الذي لن أنساه ما حييت :
“هنا القاهرة بيان من القيادة العامة للقوات المسلحة”
كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة عصراً حين أُعيد إذاعة البيان العسكري الثاني والذي جاء فيه :
“قامت قواتنا المسلحة في تمام الساعة 2:05 ظهراً بعبور قناة السويس على طول المواجهة واقتحام خط بارليف الحصين والاستيلاء على عدد من النقاط القوية للعدو وقد قامت قواتنا برفع علم مصر على الضفة الشرقية ولا تزال المعارك مستمرة بنجاح في عمق دفاعات العدو، وسط تراجع وخسائر فادحة في صفوفه .”
أنا وشقيقي لم نُدرِك تماماً كل مفردات البيان لكن وقع الكلمات كان كافيًا لنعرف أننا أمام حدث عظيم
أما أمي فقد وقفت لحظة ثم قالت بحماسٍ لم نعهده من قبل :
“الجيش عبر القناة!”
فتحت باب الشقة على الفور وبدأت تنادي على الجيران :
“يا ناس .. قواتنا المسلحة عبرت القناة!”
عمارتنا تتحول إلى ساحة نصر
خلال دقائق تحولت عمارتنا الصغيرة في حلوان إلى ما يشبه ساحة احتفال شعبية خرجت النساء من منازلهن يزغردن ويُهللن ويُنادين بعضهن البعض ويحتضن الأطفال ويرددن الأغاني الوطنية التي بدأ الراديو في بثها واحدة تلو الأخرى .
الرجال أغلبهم كانوا في أعمالهم لكن غيابهم لم يُقلل من وهج اللحظه كنا نحن الأطفال نركض على سلالم العمارة بين الزغاريد نشعر أننا جزء من هذا النصر رغم أننا لا نحمل سلاحاً المشهد كان وطنياً صافياً بلا ترتيب بلا تمثيل بلا كاميرات كان شعبياً بسيطاً إنسانياً .
لحظات كهذه لا تُصنع •• بل تولد
دخول الأب •• واستيعاب المعنى الحقيقي
قبيل الإفطار بقليل عاد والدي من عمله دخل إلى البيت فوجدنا في حالة من النشوة لا توصف ابتسم بهدوء لكن في عينيه رأيت دموعاً متحجرة وارتعاشة صوتٍ حاول أن يخفيها
جلست أنا وشقيقي بجواره وبدأ يشرح لنا بصبر الأب وحنان المعلم ووعي المواطن ماذا يعني هذا اليوم .
حيث قال لنا :
“منذ نكسة 1967 ونحن نعيش مرارة لا توصف الأرض اُغتصبت والكرامة أُهينت والعدو ظن أن مصر لن تنهض لكن جيشنا صبر وخطّط واستعد واليوم ردّ الصفعة في اللحظة التي لم يتوقعها أحد”
“عبور القناة مش بس عبور مائي ده عبور إلى مرحلة جديدة عبور من الانكسار إلى النصر من الذل إلى السيادة”
كنا صغاراً لكن حديثه حمل إلينا وعياً مبكراً ذلك الحديث رغم بساطته شكّل وعيي الوطني الأول وغرس في داخلي قيم الولاء والكرامة والتضحية .
دروس أكتوبر •• بين البيت والجبهة
ما تعلمته من مشهد ذلك اليوم يفوق كل ما يمكن أن تتضمنه المقررات الدراسية :
• أن النصر يُصنع من داخل البيوت مثلما يُصنع على الجبهات .
• أن الأم التي تُعد الطعام وهي تسمع البيان لا تقل بطولة عن الجندي الذي يُقاتل بالسلاح .
• أن الطفل الذي يلهو وهو يُدرك أن وطنه انتصر يترسخ في وجدانه وعي بالكرامة يستمر معه لعمرٍ كامل .
توصيات للأجيال •• كيف نصون ذاكرة النصر؟
أولاً : للأسر
• اجعلوا من بيوتكم مدارس للوطنية .
• احكوا لأولادكم عن التاريخ من خلال تجربتكم لا عبر النصوص فقط .
• اعلموا أن كل حكاية وطنية تروونها هي لبنة في بناء الوعي الوطني .
ثانياً : للمعلمين والمربين
•كما تسردوا التواريخ اشرحوا معاني الانتصار .
• استضيفوا أبطال حرب أكتوبر أو شهوداً على الأحداث لتكون الدروس حية .
ثالثآ : للإعلام
• لا تكتفوا بالبث الاحتفالي الموسمي بل حافظوا على حضور أكتوبر في المحتوى الإعلامي طوال العام .
• اجعلوا قصص البسطاء جزءاً من رواية النصر .
رابعاً : للمدارس والجامعات
• خصصوا حصصاً حوارية عن الوعي الوطني يُسأل فيها الطلاب : “ماذا يعني لك الوطن؟”
• دعّموا الأنشطة الوطنية والأعمال المسرحية والمعارض الفنية المستلهمة من روح أكتوبر .
خامساً : للدولة
• استثمار انتصار أكتوبر كمشروع دائم لتعزيز الهوية القومية .
• دعم المتاحف التفاعلية التي تُجسّد لحظة العبور ليعيشها الجيل الجديد بتقنيات العصر .
من عبور القناة •• إلى صمود البيت
ليست بطولات مصر حكراً على ساحات المعارك وحدها فكما أن هناك جندياً عبر القناة بسلاحه كان هناك أمٌ مصرية تقف في مطبخها تُعدّ الطعام لأولادها وتُراقب صوت المذياع كأنها تتابع حركة الجنود على الخريطة .
وفي كل بيت مصري كانت هناك جبهةٌ داخلية لا تقل بطولة ولا صلابة .
إنني أكتب هذه الخاتمة في يوم 21 أكتوبر 2025 وهو يوم له في نفسي معنىً مزدوجاً لا يُنسى :
• هو ذكرى استشهاد البطل المصري الأول نقيب بحري / احمد حسن الجندى في معركة البحرية ببورسعيد عام 1967 خلال اغراق المدمره ايلات
• وذكرى رحيل والدتي الحبيبة تلك السيدة العظيمة التي غمرت حياتنا حباً وكرامة والتي تأثرت جسدياً ونفسياً بعد استهداف منزلنا من قِبَل جماعة الإخوان الإرهابية يوم 14 أغسطس 2013 خلال أحداث العنف التي أعقبت فض اعتصام رابعة وهو ما كان سبباً مباشراً في معاناتها الطويلة مع المرض حتى ارتقت روحها الطاهرة .
ولذا فإنني لا أُهدي هذه السطور لنصر أكتوبر فقط .. بل أُهديها ايضآ إلى روح أمي التي كانت في ذلك اليوم الخالد –6 أكتوبر 1973– تُحضّر الإفطار وتُطلق الزغاريد من الشرفة وتوقظ فينا حُب الوطن بضحكةٍ خالدة وإيمانٍ لا يتزعزع .
لقد رحلت جسداً لكنها ما زالت تسكنني صوتاً وضميراً ووصية هي من علمتني أن الوطنية تبدأ من البيت من المطبخ من الزغاريد من الدعاء من أن تُحسِن لولدك فيصير رجلاً يخدم وطنه بقلبه وسيفه وقلمه .
رسالة إلى الأجيال •• هذا الدرس لا يُنسى
إن أكتوبر ليس مجرد نصر عسكري بل هو درس أخلاقي تربوي روحي يجب أن يُدرّس هو عبور جيش لكنه ايضاً عبور شعب وصمود أسر وتضحية أمهات هو اللحظة التي اتحدت فيها إرادة القيادة مع دماء الجنود مع زغاريد الأمهات مع وعي الآباء مع لهفة الأطفال .
هو قصة وطن •• تبدأ من البيت
لذلك أقول للأبناء :
اسألوا آباءكم كيف عاشوا هذا اليوم
استمعوا لأمهاتكم قبل أن تغيب أصواتهن احكوا لأبنائكم عن الأبطال الذين لم يحملوا سلاحاً لكنهم دافعوا عن الوطن بأرواحهم .
إهداء •• إلى روحكِ الطاهرة يا أمي
أكتب إليكِ اليوم في الذكرى التي جعلت الفقد أكثر وجعاً .
أكتب وأنا أستحضر صورتكِ في ذلك اليوم منذ أكثر من خمسين عاماً وأنتِ تُنادين على الجيران من شرفة بيتنا بحلوان وتُطلقين أول زغرودة نصر سمعتها في حياتي .
كنتِ أول من علّمني حب مصر دون أن تُدرّسيه لي علّمتِني أن الوطن يُصنع في القلب قبل أن يُدافع عنه بالسلاح
سامحيني إن خانني التعبير أو قصر قلمي عن أن يُوفيكِ قدركِ .
هذا المقال لكِ •• إهداءً لروحكِ النقية ولكل أمٍّ مصرية دفعت ثمن هذا الوطن بصبرها وصمتها ودموعها .
وفي النهايه •• لتُدرّس هذه الكلمات
أدعو من موقعي كمواطنٍ قبل أن أكون مسؤولًا أن تُدرّس هذه القصة في المدارس والجامعات وأن تُروى كنموذج حي لما تعنيه الوطنية في أبسط صورها وفي أعمق معانيها .
علّموا أبناءكم أن مصر انتصرت لأن أماً آمنت وأباً شرح وطفلاً فهم .
وأن النصر الحقيقي لا يبدأ من جبهة القتال بل من جبهة القيم التي تُغرس في البيوت .
مصر ستظل بخير مادام في بيوتنا أمثال أمي وفي صدور أبنائها هذا الإيمان العابر لكل هزيمة الصامد أمام كل إرهاب الحي فينا رغم الموت