محطات في حياتي.. المحطه السابعة: سراييفو حين كتب المصريون في الغربة ميثاق الوطنية والإنسانية

بقلم لواء د. احمد زغلول مهران
رئيس الهيئه الاستشاريه العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية
رئيس مركز دعم الابداع والابتكار والوعى المجتمعي
في حياة الجندي المصري لحظات لا تُقاس بالزمن بل تُقاس بمقدار ما حملت من شرفٍ وتضحيةٍ وعظمةِ روح ومأمورية سراييفو كانت واحدةً من تلك اللحظات التي امتزج فيها الواجب بالوطن والتاريخ بالإيمان والإنسانية بالشجاعة كنا مجموعة من ضباط القوات المسلحة والشرطة المصرية نمثل مصر للمرة الأولى في قوة حفظ السلام بالبوسنة والهرسك ذهبنا إلى أرضٍ مليئه بالجراح نحمل إليها وجه الوطن المشرق ورسالة السلام من أرض الكنانة .
زلزال الوطن في قلب الغربة
في الثاني عشر من أكتوبر عام 1992 وقع الزلزال الكبير في مصر الحبيبه كنا هناك في سراييفو نتابع الأخبار بأعينٍ دامعة وقلوبٍ معلّقة بالسماء لم يكن الاتصال بأهلنا يسيراً وكنّا نسمع عن خسائر ودموع عن بيوت تهدمت وأسرٍ تعاني لم يكن بيننا من لم يخشَى على أهله وعلى وطنه ولكن في تلك اللحظة العصيبة انكشفت المعادن لم نتراجع بل تكاتفنا كأننا في خندقٍ واحد عزّز كلٌّ منا الآخر واحتوانا الحب قبل الواجب كانت الغربة تذوب بيننا والوطن ينبض في صدورنا رغم البعد
لقد أدركنا أن الوطن ليس فقط أرضاً نعيش عليها بل شعوراً نحمله معنا أينما نذهب وأن المصري حين يُختبر في البعد يثبت أنه خير أجناد الأرض .
أجساد مختلفة وروح واحدة
في سراييفو لم يكن بيننا جيش وشرطة بل مصريون فقط اختلفت الرتب وتوحّد الهدف أكلنا من نفس المائدة ضحكنا معاً بكينا معاً وخضنا برد الثلوج القارس كأننا إخوة وُلدوا من رحمٍ واحد كنا جسداً واحداً وروحاً واحدة وإرادة واحدة أن يظل اسم مصر عالياً لا تهزه العواصف .
القيادة الإنسانية •• مدرسة الرجال
لن تنسى ذاكرتنا أبداً قادتنا الذين جمعوا بين الحزم والرحمة والقيادة والإنسانية تحية تقدير ووفاء للراحلين العظام الذين تركوا فينا بصمةً لا تمحى والأحياء منهم دعائى لهم بان يمدهم المولى بالصحه والعافيه والستر والرضا اذكر منهم :
• اللواء أ.ح / محمود عبد المنعم مهدي — القائد الأب الذي لم يعرف الراحة إلا حين يطمئن على جنوده – رحمه الولى رحمه واسعه .
• اللواء أ.ح / حسن حسان — القائد الحازم الهادئ الموجه بحكمة ومسؤولية – أمده الله بالصحه والعافيه والعُمر المديد .
• اللواء أ.ح / عبد المؤمن فوده — القائد الذي صنع من الصمت لغةً للثبات والعزم – رحمه الله رحمه واسعه .
• اللواء / محمد هاني فؤاد — الذي كان مثال الصبر والنظام في وجه العواصف – رحمه الله رحمه واسعه .
• اللواء أ.ح / محمد الطحلاوي — الذي جمع بين قوة القرار وإنسانية القلب وتحمل الاصابه – أمده الله بالصحه والعافيه والعمر المديد .
• واللواء أحمد اليماني — الذي ترك أثراً خالداً حين بادر بزيارة والدي المريض في منزله بمصر رغم انشغالاته في لفتة إنسانية لن تُنسى وانا كنت فى غربتى لأداء مهمتى – أمده الله بالصحه والعافيه والعمر المديد .
تحياتى لباقى أبطال سراييفو العظام أمدهم الله بالصحه والعافيه والستر والعمر المديد .
لقد علّمونا أن القيادة ليست صوتاً مرتفعاً أو أمراً مكتوباً بل قلبٌ يعرف كيف يحتوي رجاله ويقودهم نحو المجد في صمتٍ وثقة .
مقر القيادة “نادي المحلفين” ومهمة الأمن الشرفية
حين أُوكلت إليَّ مهمة تأمين مقر قيادة قوات حفظ السلام الدولية في سراييفو كان المقر يعرف باسم “نادي المحلفين” (The Jury Club) — وهو المبنى الذي اتُخذ مقراً رسمياً لقائد القوة الجنرال فيليب ماريون Philippe Marion فرنسى الجنسيه خلفاً للقائد الأسبق الجنرال نبيار Nebyar الهندى الجنسيه
كانت تلك المهمة واحدة من أكثر المهام دقةً ومسؤولية فالمقر لم يكن مجرد مكان قيادة بل مركز القرار الدولي في منطقة مشتعلة رافقني في هذه المهمة اثنان من الزملاء الضباط الأصاغر حينها أصبحا اليوم من خيرة القادة اللواء وليد الرشيدي واللواء محمد العيسوي كانا نموذجين للانضباط والفطنة وكنّا جميعاً نؤدي المهمة كأنها واجب مقدس لا يحتمل الخطأ .
الجنرال فيليب ماريون — رجل عسكري فرنسي راقٍ في تعامله — أبدى احتراماً بالغاً للمجموعة المصرية المكلفة بالتأمين وأشاد بانضباطها ودقتها وثقافتها العسكرية العالية كان يقول دائماً
“أنتم لا تحرسون المبنى فقط ..أنتم تحرسون السلام”
كلماته كانت شهادةً نعتز بها لأنها خرجت من قائدٍ دولي شهد بعينيه كيف يعمل المصري في صمت وكيف يرفع رأس بلاده دون ضجيج .
الطفل “دينو” •• شعلة الحياة وسط رصاص القناصة
قُبالة “نادي المحلفين” الذي اتخذ مقراً للقيادة كانت هناك بناية يسكنها طفل في الحادية عشرة من عمره يُدعى دينو مرزوقفيتش كان يأتي يومياً إلى بوابة المعسكر بابتسامة لم تفارق وجهه يحمل إلينا التحية والفضول ويرى في الزي العسكري المصري رمزاً للأمان اعتدنا حضوره اليومي لكننا لاحظنا أنه عند الساعة الثانية ظهراً يختفي دائماً راقبناه يوماً في حذرٍ شديد فاكتشفنا أنه يترك المنزل ويجري نحو العمارة المقابلة وسط منطقةٍ مكشوفة تعجّ بالقناصة الذين يستهدفون المارة بلا تمييز يخاطر “دينو” بحياته كل يوم فقط ليتسلل إلى الطابق الأرضي من العمارة المقابلة حيث يجلس مع مجموعة من الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة على أيدي ثلاثة معلمين تحدّوا الموت من أجل الأجيال القادمة حين سألناه مذهولين :
“يا دينو ألا تخاف من القناصة؟ من الموت في الطريق؟”
أجاب بثباتٍ عجيبٍ لايناسب عمره :
“نحن يجب أن نتعلم إذا لم نتعلم لن نهزم المحتلّ الظالم لن نحرر وطننا بالبنادق فقط، بل بالعقول”
كانت كلماته سيفاً قاطعاً في وجه الخوف وفي اليوم التالي قصدنا أنا واللواء وليد الرشيدي المكان بأنفسنا لنتحدث مع هؤلاء المدرّسين الشجعان وجدناهم ثلاثة رجالٍ نحيلين يدرّسون على شموعٍ خافتة في غرفٍ مهدمةٍ بلا نوافذ حيث سألناهم :
“لماذا تخاطرون كل يوم وأنتم تعلمون أن الموت يترصّدكم؟”
فأجاب أحدهم بلهجةٍ لم تخلُ من الفخر :
“إحنا كده كده ميتين لكن نموت وإحنا بنعلّم ابناء الوطن أفضل من ان نموت فى بيوتنا اذلاء نعلمهم لكى يحرّروا بلدنا بالعلم وليس بالخوف”
كانت كلماتهم أقوى من الرصاص لم يكونوا جنوداً لكنهم كانوا مقاتلين من نوعٍ آخر مقاتلين في معركة الوعي أولئك الثلاثة جسّدوا معنى التضحية الحقيقية الموت في سبيل أن يحيا الوطن لقد تركوا فينا أثراً خالداً علمونا أن البطولة ليست حكراً على من يحمل سلاحاً بل قد تكون في قلب معلمٍ يتحدى الموت من أجل أن يبقى النور مضيئاً في عقول الأطفال .
الإنسانية قبل الرتبة
تعلمنا من هذه المواقف أن القيادة لا تُقاس بالنجوم على الكتف بل بنبض القلب في الميدان كنا كضباط أصاغر نقترب من الجنود كالأخ الأكبر نحفّزهم ونستمع إليهم ونواسيهم كانوا يرون فينا إخوةً لا قادة فقط وكنا نرى فيهم شرف الوطن على الأرض لم يكن بيننا جنديٌ وضابط بل أبناء وطنٍ واحدٍ في خندقٍ واحدٍ يخدمون رسالة واحدة أن تبقى مصر راية سلامٍ في زمنٍ مضطرب
بطلٌ آخر من أرض البوسنة •• حسن يوكا
في خضم الحرب تعلّقنا بقصة رجلٍ من أبناء البوسنة اسمه حسن يوكا أحد رموز المقاومه والبطولة الوطنية هناك كان مقاتلاً صلباً لا يسعى إلى جاهٍ ولا منصب بل إلى خلاص وطنه حارب الظلم دون أن يخشى الموت مؤمناً بأن الكرامة لا تشترى كرّمه الرئيس الراحل علي عزّت بيغوفيتش رئيس البوسنه والهرسك بأعلى وسام في الدولة تقديراً لإخلاصه كان “يوكا” صورة صادقة للروح التي تُعلّمنا أن الوطن لا يُباع والوطن لا يُشترى والوطن لا يُترك إلا على كفّ الشهادة .
صوت العالم يشهد “أنتم رجالٌ مختلفون”
في أحد الاجتماعات مع قادة البعثات الأجنبيه بالبوسنة والهرسك قال أحد القادة الأجانب بصدقٍ وإعجاب :
“كنا نعتقد أن جنودكم سيتأثرون ببرد سراييفو القاسي لكنكم أثبتم أن المصري قادر على العمل في كل الظروف أنتم رجالٌ مختلفون”
كانت تلك الكلمات شهادة العالم في حق أبناء مصر تأكيداً لما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا فتح الله عليكم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيفًا، فذلك الجند خير أجناد الأرض
قال الله عز وجل فى كتابه الكريم :
ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين
صداقة الغربة التي لا تموت
مرت السنوات لكن روابط سراييفو لم تنتهى ما زلنا نحن من خدمنا هناك نتواصل يومياً عبر مجموعة “سراييفو” على “واتس آب” نضحك ونستذكر ونترحم نجتمع شهرياً نحيي الذكريات ونتبادل الدعاء لمن رحل إنها ليست صداقة عابرة بل أخوة ولدت من رحم الغربة والمحنة
كنا ولا زلنا رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
توصيات أتمنى تحقيقها :
١- توثيق رسمي للتجربة كمصدر إلهام وطني .
٢- إدخال مبادئ القيادة الإنسانية في مناهج إعداد القاده المدنيين .
٣- تعزيز التعاون الثقافي المصري البوسني لإحياء روابط الصداقة .
٤- تسجيل مواقف بطولية مدنية كالتي مثلها المعلمون الثلاثة في مناهج التربية الوطنية .
فى النهايه ••مصر التي لا تنكسر كلما تذكرت سراييفو تذكّرت وجوه الرجال الذين لم يناموا إلا بعد أن يطمئنوا على بعضهم وطفلاً اسمه “دينو” يركض نحو العلم في قلب الخطر وثلاثة معلمين يواجهون الرصاص بالقلم تذكّرت قادةً علّمونا الشرف قبل النظام وجنوداً علّمونا الصبر قبل السلاح وتذكّرت أن مصر أينما كانت تصنع الحياة وتزرع السلام
تحيا مصر •• تحيا بجيشها وشرطتها وبقادتها وجنودها وبرجالها الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه تحيا مصر وطن البطولة والخلود وطن لا ينكسر لا ينسى أبناءه ولا ينساه التاريخ .





