ساحة الرأي

موسوعة “المشروع الصهيوني.. التاريخ، الاحتلال، والمواجهة” | الباب الأول: النشأة التاريخية والفكرية للمشروع الصهيوني

بقلم: اللواء/ أحمد زغلول مهران
أمين عام المركز الدولي لعلوم الأهرامات وأخلاقيات العلم

يُعد المشروع الصهيوني أحد أخطر المشاريع الاستعمارية الحديثة، ليس فقط لأنه أدى إلى اغتصاب أرض فلسطين وتشريد شعبها، بل لأنه تأسس على مزيج خطير من الأساطير الدينية، والدعاوى العرقية، والدعم الاستعماري الدولي وقد تطور هذا المشروع من فكرة دينية محرّفة إلى كيان سياسي استيطاني، مدعوماً بتحالفات استراتيجية مع القوى الإمبريالية الغربية، وعلى رأسها بريطانيا ثم الولايات المتحدة في هذا الباب من الموسوعة، نسلط الضوء على النشأة التاريخية والفكرية للحركة الصهيونية، من الجذور الدينية القديمة إلى لحظة التحول السياسي، مروراً بأهم المحطات التي مهدت الطريق لإقامة “إسرائيل” على أرض فلسطين، وبدء معاناة شعبها المستمرة حتى اليوم.

الفصل الأول: الجذور الدينية والفكرية للصهيونية

1.1 فكرة “شعب الله المختار”

تعتمد الصهيونية في جذورها الأولى على تأويل ديني متطرف لفكرة أن اليهود هم “شعب الله المختار”، وأن لهم حقاً إلهياً حصرياً في “أرض الميعاد”، أي فلسطين وتستند هذه الفكرة إلى نصوص توراتية جرى تحريفها عبر العصور، واستخدامها كأساس أيديولوجي لتبرير طرد السكان الأصليين وإحلال شعب آخر محلهم.

لقد وظفت الصهيونية هذه الفكرة في صياغة مشروعها الاستيطاني، مقدمة نفسها كحركة “تحرر قومي” لليهود، في حين أنها حركة استعمارية إحلالية في الجوهر.

1.2 الأسطورة التوراتية في خدمة المشروع السياسي

تعاملت الصهيونية مع التوراة كمصدر “سياسي”، وليس مصدراً دينياً فحسب فجاءت الروايات التي تتحدث عن “الوعد الإلهي” لأرض كنعان، لتصبح أداة لتكون ذريعه لاحتلال الأرض وطرد أهلها وتمت صياغة وعي صهيوني جماعي يتغذى على فكرة “العودة”، متجاهلاً أن اليهود لم يكونوا أبداً سكاناً أصليين لفلسطين، بل كانوا جزءاً من شعوب متعددة مرّت بها، وكان الوجود اليهودي فيها متقطعاً وعابراً، وليس تاريخياً متجذراً كما يُروج.

الفصل الثاني: من الفكرة إلى التنظيم السياسي – المؤتمر الصهيوني الأول

2.1 ظهور تيودور هرتزل وتحويل الفكرة إلى مشروع

في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الملامح السياسية للصهيونية تتبلور مع الصحفي اليهودي النمساوي تيودور هرتزل، الذي تأثر بتصاعد موجات معاداة السامية في أوروبا، وخاصة خلال قضية “دريفوس” في فرنسا فكتب كتابه الشهير “الدولة اليهودية” عام 1896، داعيًا إلى إقامة وطن قومي لليهود.

ملحق توضيحي – قضية دريفوس وأثرها على الفكر الصهيوني

تُعد قضية دريفوس من أبرز الأحداث التي كشفت عن عمق معاداة السامية في أوروبا نهاية القرن التاسع عشر، وكان لها تأثير مباشر في تشكيل رؤية ثيودور هرتزل حول مستقبل اليهود، ما ساهم في ولادة الحركة الصهيونية كحركة سياسية.
في عام 1894، اتُّهم ضابط يهودي في الجيش الفرنسي يُدعى ألفريد دريفوس بالتجسس لصالح ألمانيا، وتمت محاكمته وسجنه رغم غياب الأدلة، فقط لأنه يهودي.

أثارت القضية انقساماً حاداً في فرنسا بين مؤيدين ومعارضين، وفضحت العنصرية المتجذرة حتى في أكثر الدول الأوروبية تحرراً وكان من أبرز المدافعين عن دريفوس الكاتب إميل زولا، بمقالته الشهيرة: “إني أتهم…!”.

غطّى الصحفي اليهودي النمساوي ثيودور هرتزل هذه المحاكمة، وتأثر بها بشدة، لدرجة أنه توصّل إلى قناعة بأن اليهود لن يكون لهم أمان في أوروبا، وأن الحل الوحيد هو إقامة وطن قومي لليهود خارجها وبذلك، شكّلت قضية دريفوس نقطة تحول محورية في التفكير الصهيوني، وساهمت في تحويل فكرة “العودة إلى أرض الميعاد” من حلم ديني إلى مشروع سياسي، تُوّج بعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897

2.2 المؤتمر الصهيوني الأول (بازل، 1897)

في عام 1897، عُقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل بسويسرا، بمشاركة ممثلين عن الجاليات اليهودية حول العالم، ليتم الإعلان عن برنامج بازل، الذي نص على:

إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين بضمانات قانونية دوليه

وبذلك، شكّلت قضية دريفوس نقطة تحول محورية في التفكير الصهيوني، وساهمت في تحويل فكرة “العودة إلى أرض الميعاد” من حلم ديني إلى مشروع سياسي، تُوّج بعقد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897
وبهذا، تحوّلت الصهيونية من حركة دينية إلى حركة سياسية، لها مؤسسات ومجالس ومؤتمرات دورية، تعمل على تنفيذ مشروعها على أرض الواقع.

الفصل الثالث: التحالف مع الاستعمار البريطاني – وعد بلفور

3.1 السياق الاستعماري العالمي

جاء صعود الصهيونية متزاماً مع ذروة التوسع الاستعماري الأوروبي، حيث كانت بريطانيا تسعى إلى تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، وخاصة لحماية طريق الهند وقناة السويس وقد وجدت في الصهيونية حليفاً استراتيجياً يمكن أن يخدم مصالحها الاستعمارية.

3.2 وعد بلفور (1917)

في 2 نوفمبر 1917، أصدرت الحكومة البريطانية وعدها الشهير المعروف بـ وعد بلفور، الذي جاء في رسالة من وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اللورد روتشيلد:

“تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف.”

رغم أن فلسطين لم تكن خالية من السكان، تجاهل الوعد تماماً الوجود العربي الفلسطيني، مما جعل الوعد مثالاً على التواطؤ الاستعماري في أبشع صوره.

3.3 الانتداب البريطاني: تنفيذ الوعد بالقوة

بعد الحرب العالمية الأولى، وُضعت فلسطين تحت نظام الانتداب البريطاني (1920–1948)، وكان الهدف الأساسي من هذا الانتداب هو تنفيذ وعد بلفور عملياً، من خلال تسهيل هجرة اليهود، وتأسيس مؤسساتهم، وقمع المقاومة الفلسطينية، وتهميش العرب في الإدارة والتعليم والسياسة.

الفصل الرابع: أدوات التنفيذ – الهجرة، الاستيطان، شراء الأراضي، المؤسسات

4.1 الهجرة اليهودية المنظمة

بدأت الموجات الأولى من الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر، لكنها تسارعت بشكل كبير بعد وعد بلفور تم تنظيم هذه الهجرات عبر وكالات صهيونية متخصصة، مثل الوكالة اليهودية، والصندوق القومي اليهودي.

4.2 شراء الأراضي بطُرق ملتوية

تم شراء مساحات واسعة من الأراضي عبر صفقات مع الإقطاعيين الغائبين عن فلسطين، دون علم الفلاحين الذين كانوا يسكنون ويزرعون تلك الأراضي. وقد استخدمت الوكالات الصهيونية وسائل مالية ومضاربات عقارية لانتزاع الأراضي من العرب، ومنع بيعها مرة أخرى لغير اليهود.

4.3 بناء مؤسسات الدولة الصهيونية مبكراً

أنشأت الحركة الصهيونية بنية تحتية شبه كاملة لدولة يهودية داخل فلسطين تحت سمع وبصر الانتداب البريطاني، شملت:
• مدارس ومناهج تعليمية عبرية
• نقابات عمالية (الهستدروت)
• قوة شبه عسكرية (الهاجانا)
• شبكات مواصلات ومستوطنات زراعية وصناعية

كل هذا، بينما كانت الحكومة البريطانية تقمع أية محاولات فلسطينية لبناء مؤسسات وطنية موازية.

الفصل الخامس التواطؤ الدولى والصمت على الجريمه الصهيونيه

5.1 الموقف الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية

بعد الحرب العالمية الثانية، ومع تصاعد الحديث عن “الهولوكوست”، ازدادت الضغوط الغربية لتسريع إقامة الدولة اليهودية. وقد استُخدم تعاطف الشعوب الغربية مع اليهود، وخاصة في أوروبا، كغطاء أخلاقي لتبرير ارتكاب جريمة جديدة بحق الشعب الفلسطيني.

5.2 قرار تقسيم فلسطين (1947)

في عام 1947، أصدرت الأمم المتحدة قرارًا بتقسيم فلسطين إلى دولتين: يهودية وعربية، رغم أن اليهود لم يكونوا يملكون سوى 7% من الأرض. قوبل القرار برفض عربي، واعتبره الفلسطينيون استمرارًا للظلم التاريخي ضدهم.

5.3 قيام إسرائيل والنكبة

في 14 مايو 1948، أعلن ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل على 78% من أرض فلسطين التاريخية. تزامن ذلك مع نكبة الشعب الفلسطيني، حيث تم:
• تدمير أكثر من 500 قرية وبلدة فلسطينية
• تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني قسرًا
• ارتكاب عشرات المجازر (دير ياسين، الطنطوره، اللد…)

كل ذلك وسط صمت دولي، ودعم عسكري وسياسي غربي مباشر.

الفصل السادس: خلاصة وتحليل نقدي للمشروع الصهيوني

6.1 المشروع الصهيوني: قراءة تحليلية في الجوهر والغاية

إن جوهر المشروع الصهيوني ليس كما تروّج له الأدبيات الغربية بأنه “حركة تحرر قومي لليهود”، بل هو في حقيقته مشروع استيطاني إحلالي استعماري، يستند إلى:
• خرافات دينية محرّفة تُسوّق لأحقية زائفة في أرض فلسطين
• نزعة عنصرية تُقصي الآخر، وتنفي وجوده، وترفض التعايش معه؛
• تحالف استعماري ممنهج، عمل على توظيف اليهود سياسيًا لتحقيق مصالح القوى الإمبريالية في المنطقة
وهو مشروع وظيفي بامتياز، أرادت به القوى الغربية أن يكون خنجراً في قلب الوطن العربي، يفتت وحدته، ويمنع نهوضه، ويراقب ثرواته.

6.2 الأسس الأيديولوجية والعملية

يعتمد المشروع على خمس ركائز استراتيجية:
1. تشريع ديني عبر التوراة: إضفاء قداسة كاذبة على مشروع سياسي.
2. دعم استعماري غربي: من وعد بلفور إلى السلاح الأمريكي الحديث.
3. الهجرة المنظمة والاستيطان المكثف: لتغيير الواقع الديموغرافي.
4. الإنكار الكامل للوجود الفلسطيني: عبر الطرد والتشريد والتدمير.
5. التحكم في الرواية والتاريخ: بإعادة صياغة الأحداث وتشويه الحقائق.

هذه الأسس تبلورت في سياسة واقعية ترتكز على القوة والقمع، وليس على التفاوض أو التسامح، وهو ما يظهر في كل مراحل تأسيس دولة الاحتلال وسياساتها اللاحقة.

6.3 فشل الرواية الصهيونية رغم الدعم الدولي

ورغم كل الدعم الدولي غير المحدود، لم تنجح الصهيونية في طمس الوعي العربي أو الفلسطيني فالرواية الصهيونية اصطدمت بالحقائق التالية:
• استمرار الهوية الوطنية الفلسطينية، رغم النكبة والشتات.
• فشل محاولات تهويد الذاكرة التاريخية لفلسطين.
• انكشاف الطابع العنصري والديني المتطرف للكيان الصهيوني عالميًا.
• تصاعد حركات المقاطعة الدولية (BDS)، والتضامن الشعبي العالمي مع فلسطين.
• الصمود الفلسطيني المتواصل في الداخل والخارج، عبر الأجيال.

إن المشروع الصهيوني، رغم تغلغله الجغرافي والسياسي، لا يزال كياناً غير طبيعي، يفتقر للشرعية الأخلاقية والتاريخية، ويعتمد فقط على القوة العسكرية والدعم السياسي الخارجي.

6.4 صراع وجود لا صراع حدود

الصهيونية لا تقبل بوجود شريك فلسطيني، ولا ترى في العرب إلا تهديداً وجودياً لذلك، فإن الصراع لم يكن يوماً صراع حدود، بل صراع وجود بين مشروع استيطاني يريد محو الآخر، وشعب مقهور يدافع عن وجوده وحقوقه.

الخاتمة: نحو وعي تاريخي يمهّد للمواجهة الشاملة

إن تتبّع النشأة الفكرية والتاريخية للحركة الصهيونية يكشف أنها لم تكن ردّ فعل على اضطهاد اليهود في أوروبا كما تدّعي، بل كانت مشروعاً استعمارياً مخططاً له بعناية، رُسمت له خريطة التنفيذ منذ المؤتمر الصهيوني الأول، ودُعّم بوعد بلفور، وتم تنفيذه عبر الاستيطان والهجرة والتهجير والمجازر.

لقد فُرض على الشعب الفلسطيني، وعلى الأمة العربية، كيان غريب عن النسيج التاريخي والجغرافي والحضاري للمنطقة، وهو كيان لا يهدف فقط لاحتلال الأرض، بل لتدمير المجتمع، وسلخ الإنسان الفلسطيني عن تاريخه وهويته.

ومع ذلك، لم تفلح كل محاولات التزوير والهيمنة في كسر الإرادة الفلسطينية، التي واجهت المشروع منذ بداياته، بكل أدوات المقاومة المتاحة، بدءاً من الكلمة، إلى الحجر، فالسلاح، فالصمود اليومي في أرض محروقة.

وهنا، تنفتح أمامنا أبواب الذاكرة والمأساة الكبرى، التي حملت في تفاصيلها كل بشاعات المشروع الصهيوني من النكبة والاحتلال، إلى التهجير القسري والمجازر الجماعية، إلى تفكيك المجتمع الفلسطيني وتدمير اماله السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

تمهيد للباب الثاني

في الباب الثاني من هذه الموسوعة، ننتقل من الجذور الفكرية إلى الميدان، حيث تُسجّل وقائع الجريمة الكبرى بحق فلسطين، عبر استعراض النكبة، والاحتلال، والجرائم المنظمة التي ارتُكبت بحق شعب أعزل، تم طرده من أرضه، ومسح قراه ومدنه عن الخريطة، وسرقة حضارته وتاريخه.

سنتناول تفاصيل المجازر المروعة، والتطهير العرقي، وتدمير البنية الاجتماعية الفلسطينية، لنعيد كتابة الحقيقة كما هي، بلا تزييف، ولنوثّق أن فلسطين كانت – وما تزال – قضية تحرر وعدالة وإنسانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى