ساحة الرأي

السياسة بين النوايا الصادقة وتعقيدات الواقع الحزبي.. رؤية مرجعية للإصلاح السياسي في الجمهورية الجديدة

بقلم: اللواء/ أحمد زغلول مهران
عضو الهيئة الاستشارية العليا – مركز رع للدراسات الاستراتيجية

في لحظة وطنية تتطلب إعادة تعريف أدوار المؤسسات السياسية في مصر، لابد من وقفة صادقة مع الذات، تضع الواقع تحت مجهر التقييم، وتطرح حلولاً شاملة، تستند إلى التجربة لا الأيديولوجيا، وإلى الغرض الوطني لا الحسابات الضيقة.

ما أقدمه في هذا المقال ليس شهادة شخصية ولا موقفاً ظرفياً، بل رؤية تحليلية شاملة تستند إلى تجربة عملية عميقة في قلب العمل الحزبي، وتسعى إلى تقديم وثيقة مرجعية لكل المهتمين بالشأن العام والسياسي في مصر.

أولاً: منطلقات وطنية لا ذاتية

ما أكتبه اليوم لا يهدف إلى التشهير أو تبرئة الذات، بل ينطلق من إيمان راسخ بأن الإصلاح الحزبي جزء لا يتجزأ من مشروع الدولة الحديثة، وأن أي تقدم في البناء المؤسسي للدولة يجب أن يواكبه تقدم موازٍ في بناء البنية التحتية السياسية والتنظيمية لقد كانت بدايتي في العمل الحزبي نابعة من رغبة صادقة في الإسهام في بناء حياة سياسية ناضجة، عبر حزب فاعل يعكس إرادة الشارع، ويحترم الدستور، ويُراكم الكفاءات الوطنية لصالح المشروع القومي.
دخلت من باب الانتماء لا المصلحة، ومن بوابة الالتزام لا الاصطفاف، حاملاً معي رصيداً اجتماعياً ووظيفياً وخبرة في إدارة الأزمات الوطنية، ومؤمناً أن السياسة لا يجب أن تكون مغنماً بل مسؤولية وطنية عليا.

ثانياً : الواقع الحزبي كما هو •• دون تزييف أو مواربة

  1. هيمنة التكتلات وغياب المؤسسية رغم الطفرة الدستورية والقانونية التي أرستها الجمهورية الجديدة فيما يخص التعددية السياسية، فإن كثيراً من الأحزاب لا تزال أسيرة ممارسات قديمة، حيث تُدار التنظيمات بعقلية “الدوائر المغلقة” و”التربيطات الجغرافية”، في ظل غياب حقيقي لمعايير الكفاءة والشفافية والتداول.

  2. إقصاء الكفاءات لصالح الولاءاتالكثير من الكفاءات الوطنية، خاصة من خارج الدوائر المغلقة، تُقابل بالشك أو التهميش داخل البناء الحزبي، ليس لعجزها عن الأداء، بل لعدم انخراطها في منظومة الولاءات الشخصية وهذا الإقصاء لا يضر الأفراد فقط، بل يضعف التنظيم ذاته، ويجعله هيكلاً هشاً لا يفرز قيادات قادرة على مواكبة تطورات الدولة والمجتمع.

  3. التمثيل الانتخابي الشكلي
    شهدت الساحة السياسية حالات من التمثيل الحزبي المحدود وغير الفعال، خاصة في الاستحقاقات البرلمانية، حيث غابت المعايير المهنية، وحلت محلها حسابات آنية لا تليق بطموحات تنظيمات يُفترض أنها تستعد للمشاركة في صياغة مستقبل الدولة.

ثالثاً : التأثير على العلاقة بين الأحزاب والمواطن

عندما يُدار الحزب بمنطق الاحتكار، ويتحول إلى كيان مغلق لا يعكس التنوع المجتمعي، تبدأ الفجوة في الاتساع بين المواطن والتنظيم السياسي وتتراجع ثقة الناس في أن الأحزاب أدوات حقيقية للتعبير، ويغيب الأمل في أن تتحول السياسة إلى مجال تنافسي شريف يُنتج برامج وقيادات إن أخطر ما يمكن أن تواجهه الدولة في هذه اللحظة هو انفصال الفعل الحزبي عن الواقع المجتمعي، وتحول السياسة إلى طقوس بيروقراطية لا تُترجم إلى تنمية، أو تمثيل، أو دفاع حقيقي عن قضايا الناس.

رابعاً : خريطة طريق للإصلاح السياسي والتنظيمي في مصر

من رحم التجربة، وتحت مظلة المصلحة الوطنية العليا، أقدم هذه المبادئ كمرجع قابل للتطبيق على كل الأحزاب في مصر، من أجل بيئة سياسية أكثر نضجاً وقدرة على الاستجابة لمتطلبات الجمهورية الجديدة:

  1. المؤسسية وتداول السلطة
    ضرورة تكريس مبدأ الانتخابات الداخلية الدورية، وفق لوائح معلنة، تسمح بتجديد الدماء، ومنع التكلس القيادي، وضمان وصول الكفاءات الحقيقية إلى مواقع التأثير.

  2. معايير موضوعية للترشح والمناصب
    اعتماد قواعد معلنة للتدرج التنظيمي والترشح للمواقع القيادية، تقوم على الإنجاز والكفاءة، لا على العلاقات الشخصية أو الولاءات الجغرافية.

  3. الشفافية المالية والتنظيمية
    إخضاع الموارد والتمويل والقرارات الإدارية لرقابة معلنة، مع إتاحة المعلومات لأعضاء التنظيم، بما يضمن النزاهة ويمنع الاحتكار.

  4. التمكين الحقيقي للشباب
    الانتقال من الخطاب إلى التطبيق في دعم الكوادر الشابة، عبر تدريب سياسي متخصص، وتكليفات حقيقية داخل الهياكل، وليس عبر لجان رمزية.

  5. إشراف مستقل على الانتخابات الداخلية لضمان نزاهة العملية الانتخابية داخل الأحزاب من خلال إشراف جهات مستقلة، لحماية القرار الحزبى .

  6. إصلاح العلاقة بين الحزب والشارع وفتح المقرات، تفعيل الأمانات النوعية، إطلاق مبادرات تنموية وتوعوية تمس واقع الناس، حتى يشعر المواطن أن الحزب يخدمه لا يتعالى عليه.

  7. التأكيد على البعد الأمني للتنظيم السياسي حيث ان الحزب الوطني المتماسك أحد أذرع الأمن القومي؛ إذ إن استقرار الأحزاب ينعكس على استقرار المجتمع، والعكس صحيح.

خامساً : دعوة مفتوحة للتوافق السياسي الوطني

ليس المطلوب اليوم هو تعدد الأحزاب بالعدد، بل بالتأثير وليس المهم أن توجد كيانات مسجلة، بل أن يكون لها أثر في الشارع، وصدى في القرار، وتمثيل حقيقي في المجتمع
إذن، فلتكن هذه المرحلة بوابة لإعادة هيكلة الحياة السياسية في مصر، من خلال:
• إعادة تعريف دور الأحزاب
• تقييم التجربة السابقة بصدق
• بناء تنظيمات وطنية حديثة تقوم على العقل والكفاءة، لا على الاصطفاف والمصالح

سادساً : القيادة السياسية وإرادة التمكين الديمقراطي

من الإنصاف، بل من الواجب الوطني، أن نثمّن الدور الكبير الذي لعبته القيادة السياسية، وعلى رأسها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، في فتح المجال أمام عودة الحياة السياسية إلى مسارها الطبيعي كإحدى ركائز الجمهورية الجديدة.

لقد أكدت القيادة، في أكثر من موضع، أن قوة الدولة الحديثة لا تكتمل إلا بتوازن سلطاتها، ومشاركة قواها الحية، وعلى رأسها الأحزاب، في تحمل مسؤولياتها في الرقابة والمساءلة، كما نصّ عليه الدستور المصري بوضوح.

الرئيس السيسي وجّه، مراراً وتكراراً، دعوات صريحة لتفعيل دور الأحزاب، ليس كشكل تجميلي، وإنما كأداة وطنية قادرة على أن تكون:
• قاطرة وعي للشارع المصري
• حلقة وصل فعالة بين المواطن وصانع القرار
• عيناً رقابية شريفة على أداء الجهاز التنفيذي
ومن هنا، فإن دعوة الرئيس للحياة السياسية الناضجة لم تكن مجرد شعار، بل رؤية استراتيجية تُدرك أن بناء الدولة لا يكتمل بالأمن والتنمية فقط، بل بالمشاركة السياسية الواعية أيضًا.

إن هذه الإرادة السياسية الواضحة تضع الكرة في ملعب الأحزاب والتنظيمات السياسية، لتُثبت أنها على قدر المسؤولية، وأنها قادرة على الارتقاء بالمشهد السياسي من الصراع على المواقع، إلى التنافس على الأفكار، ومن التحزّب للنفوذ، إلى التحزّب للمصلحة الوطنية.

ما زال في النفس أمل رسالتي واضحة:
• دعونا لا نُقصي أحداً ممن يريد خدمة الوطن بإخلاص.
• دعونا لا نحاصر السياسة في أروقة المصالح والدوائر المغلقة.
• دعونا نُعيد للناس ثقتهم في أن المشاركة السياسية ليست امتيازاً ، بل حق ومسؤولية.

لقد آن الأوان لأن ننتقل من حالة الجمود الحزبي إلى مرحلة الفعل السياسي الحقيقي، ومن منطق التمثيل الشكلي إلى التأثير المجتمعي والتنفيذي، ومن التسميات إلى الأدوار، ومن الشكليات إلى الإنتاج السياسي الهادف فالسياسة ليست رفاهية، وليست رفعة لمنصب، بل مهمة وطنية تحمل على عاتقها إعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، عبر أدوات مدنية محترفة، شفافة، منضبطة، ومؤثرة .

هذه الوثيقة ليست مقالة.. بل نداء وطني

نداء إلى كل حزب، وكل قيادة، وكل تنظيم:
• أن يضع الوطن أولاً
• أن يُقدّم المؤسسة على الفرد
• وأن يُعلي المصلحة العامة فوق أي اعتبار خاص

الجمهورية الجديدة التي نبنيها اليوم، بقيادة واعية وشعب طامح، لا يليق بها أن تكون الحياة السياسية فيها تابعة أو متأخرة، بل يجب أن تكون ريادية، تُعبّر عن تطلعات مجتمع حديث، متنوع، نابض بالحياة.

لذلك، فإن هذه المقاله التحليليه ليست فقط دعوة للإصلاح، بل هي وثيقة قابلة للطرح في كافة المنتديات الحزبية والبرلمانية والسياسية كمبادرة وطنية، لتحويل ما نتحدث عنه كثيراً ، إلى ما ننجزه فعلياً .

ولنبدأ جميعاً من جديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى