أرض الأبطال.. الدراما المصرية بين التوثيق الوطني وتجاهل بطولات الظل

بقلم: لواء/ د. أحمد زغلول مهران
رئيس الهيئة الاستشارية العليا لمركز رع للدراسات الاستراتيجية
رئيس مركز دعم الإبداع والابتكار والوعي المجتمعي
حين تُحجب الكاميرا •• لننتظر البطوله
الدراما ليست مجرد فن مرئي أو سرد سينمائي بل مرآة تعكس ذاكرة الأمة وتعيد تشكيل وعيها الجمعي وتُخلِّد بطولاتها وتحفظ تضحيات أبطالها حين تغيب الكاميرا عن رواية الأحداث الحقيقية تبهت الذاكرة ويتلاشى الإدراك المجتمعي بقيمة ما تحقق ويزداد الخطر حين يتعلق الأمر بملحمة وطنية مثل حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة اللتين صنعتا التحول الجذري في تاريخ مصر الحديث ولكن وسط ما قُدّم من أعمال درامية ملهمة ما زال هناك فراغ كبير في تمثيل العديد من البطولات الخفية كالمجاهدين من أبناء سيناء والمجموعة 39 قتال ومنظمة سيناء العربية والفدائيين المدنيين لم تأتِى على ذكرهم الدراما بشكل يليق بحجم تضحياتهم بل اقتصر التوثيق على بطولات مركزية لا تغني عن السياق الكامل للمعركة الوطنية .
أولاً : دراما النكسة •• توثيق الألم والتعبئة المعنوية
١- أبرز الأفلام التي جسدت نكسة 1967 وما بعدها
• أبناء الصمت (1974)
فيلم خالد من إخراج محمد راضي سلّط الضوء على أوجاع ما بعد النكسة وواقع الجنود في جبهات القتال خاصة في منطقة القناة نجح في توثيق الحالة النفسية للجنود المصريين في انتظار لحظة الرد والثأر .
• أغنية على الممر (1972)
فيلم من اخراج على عبدالخالق تناول قصة جنود محاصَرين في موقع بسيناء خلال فترة حرب ١٩٦٧ وما قبل العبور جسد بحرفية شديدة الصراع النفسي والإنساني بين الانكسار والتمسك بالأمل .
• العمر لحظة والوفاء العظيم و بدور
أعمال نقلت مزيجاً من المرارة والبطولة وركزت على تأثير الحرب في الداخل خاصة على النساء والأسر .
ثانياً : دراما حرب الاستنزاف •• المعركة التي أُهمِلت درامياً
رغم أن حرب الاستنزاف كانت الحرب الحاسمة التي أعادت للجيش ثقته بعد النكسة لم تحظَ بما تستحقه درامياً معظم الأعمال تناولتها في مشاهد عابرة أو اختزلتها في لقطات عسكرية بدون الغوص في تفاصيل العمليات الخاصة أو المشاركة الشعبية أو الحروب الاستخباراتية إنها الحرب التي لم تُكتب بعد رغم أن في طياتها بطولات أعظم من أن تُنسى .
ثالثاً : حرب أكتوبر •• النصر الذي لم يُروَى كاملاً
الأعمال الأشهر:
• الرصاصة لا تزال في جيبي(1974)
فيلم شهير ترسّخ في الوجدان الشعبي جمع بين الجبهة والحب والخيانة والوطنية .
• الممر (2019)
أعاد الاهتمام بالدراما العسكرية بجودة سينمائية متقدمة وسلط الضوء على العمليات النوعية التي سبقت حرب أكتوبر .
النجاحات :
• ترسيخ صورة الجندي المصري كمقاتل شجاع ومخلص .
• إحياء روح الفخر الوطني والاعتزاز بملحمة العبور .
• تقديم تقنيات سينمائية حديثة جاذبة للشباب .
أوجه القصور :
• غياب السرد الجماعي الكامل : مثل الأدوار العربية (سوريا – الجزائر – العراق) .
• التهميش شبه التام لأبطال الظل والفدائيين وأبناء سيناء وضباط المخابرات .
• التركيز المفرط على النصر دون تمهيد كافٍ للمعاناة التي سبقته .
رابعاً : الأبطال المنسيون •• منظمة سيناء العربية نموذجاً
من هم الأبطال الحقيقيون؟
• منظمة سيناء العربية تأسست في 1968 بواسطة المخابرات الحربية بالتعاون مع أبناء سيناء وجمعت نحو 757 مجاهدًا من 12 محافظة نفذوا عمليات استثنائية ضد الاحتلال الإسرائيلي في عمق سيناء .
أبرز أبطالها :
• المجاهد / متعب هجرس
• المجاهد / عبد المنعم قناوي
•المجاهد / شلاش خالد عرابى
•المجاهد / حسن على خلف
•المجاهد / براك النعامى
•المجاهد / عبدالفتاح ابو مرزوقه
•المجاهد / محمد اليمانى
•المجاهد / عبدالله خويطر
•المجاهد / على فريج
•المجاهد / عبدالله جهامه
•المجاهد / نصرالله نصر
•المجاهد / سليمان مغنم
وغيرهم من أبناء القبائل والمدن الذين قاتلوا حباً وولاءً للوطن بلا مقابل سوى الانتماء .
التناول الدرامي :
• لا فيلم ولا مسلسل ولا حتى فيلم وثائقي تناول بطولات المنظمة حتى اليوم .
خامساً : مشروع أرض القمر •• دراما مؤجلة تنتظر القرار
تم السماح بفتح ملف منظمة سيناء العربية درامياً وأُعد سيناريو لمسلسل بعنوان “أرض القمر” بمشاركة:
• المؤلفة نشوى زايد
• المخرج محمد ياسين
• المنتج عمرو الصيفي
وشارك الكاتب والمخرج والنتج في مواكبة المشروع من بدايته وتسجيل لقاءات مع أبطال المنظمة الحقيقيين صوتاً وصورة بحضور القادة العسكريين الذين أشرفوا على تلك العمليات جميع المواد محفوظة وجاهزة للتنفيذ الدرامى .
لكن للأسف لم يخرج المشروع إلى النور حتى اليوم رغم أن معظم الأبطال الحقيقيين قد رحلو حاملين أمنيتهم الوحيدة أن يرى بطولاتهم تُعرض على الشاشة .
سادساً : المجموعة 39 قتال •• كتيبة النخبة التي لم تُروَ قصتها
• بقيادة الشهيد العميد إبراهيم الرفاعي نفذوا أكثر من 100 عملية نوعية من تفجير مواقع إلى اختراق عمق العدو إلى تحرير أسرى .
• تم تمثيلهم جزئياً في فيلم الممر لكن دون ذكر الاسم الصريح أو عرض التفاصيل الفعلية .
إنها قصة تليق بفيلم عالمي لا بمشهد تمثيلي ضمن فيلم واحد
سابعاً : تأثير الدراما على الوعي الجمعي •• ما بين الإحياء والتغييب
النجاحات :
• خلق ذاكرة وطنية جماعية خاصة لدى جيل ما بعد الحرب .
• رفع الروح المعنوية خاصة في أعقاب الانتصار .
• تقديم صورة مشرفة للجندي المصري كرمز للكرامة والتضحية .
القصور :
• تجاهل الأبعاد النفسية للمعركة (الأسرة والفقد والصدمة والأسر والنكسة الاجتماعية) .
• تهميش كامل لبطولات فئات غير رسمية (فدائيون – مدنيون – استخبارات – أبناء سيناء) .
• قلة الأعمال الحديثة التي تجذب الجيل الجديد بلغة العصر .
ثامناً : التوصيات الاستراتيجية للنهوض بالدراما الوطنية
١- تأسيس هيئة وطنية لإنتاج الدراما الوطنية •• تضم مؤرخين وكتاب سيناريو ومخرجين وضباط مخابرات سابقين ومجاهدين لتوثيق الأحداث بأمانة .
٢- إنتاج مسلسل سنوي يتناول بطولات مجهولة •• مثل منظمة سيناء العربية والمجموعة 39 قتال ودور أبناء القناة والمرأة المصرية في الحرب .
٣- دعم أفلام تفاعلية بتقنيات الواقع الافتراضي
لتقديم التجربة الوطنية لجيل ما بعد الرقمنة .
٤- دمج هذه القصص في المناهج التعليمية •• خاصة في مقررات “التربية الوطنية” والتاريخ المعاصر .
٥- منح أولوية لمشروعات درامية مؤجلة مثل “أرض القمر”
بدعم الدولة أو الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية .
٦- مبادرة لتسجيل شهادات من تبقى من أبطال الظل صوتاً وصورة
لحفظها في مكتبة قومية رقمية وطنية قبل فوات الأوان .
فى النهايه •• ماذا نروي للأجيال القادمة؟
لقد قدّمت الدراما المصرية صورة وطنية مُشرّفة في جوانب عديدة لكنها تركت فجوات عميقة في الذاكرة الجمعية خاصة حين تعلّق الأمر بأبطال الظل .
لم يكن الانتصار في أكتوبر محض ضربة حظ بل نتاج تراكم تضحيات ومعارك ظل وفدائيين بلا أسماء ونضال سري ومواطنين عاديين حملوا مصر على أكتافهم .
الدراما المصرية أمام مسؤولية حقيقية الآن إما أن تُنصف المجهولين وأن تُعيد التوازن لسردية النصر وأن تكتب ما لم يُكتب بعد .
الدراما ليست مجرد عرض بل عدالة يجب معرفتها وعدم تأجيلها لخدمة المجتمع والوطن