تقرير استراتيجي: حول اتفاق تبادل الأسرى بين إسرائيل وحماس
بين إنسانية الحل ومحدودية الأفق السياسي

بقلم: لواء د. أحمد زغلول مهران
رئيس الهيئة الاستشارية العليا لمركز رَعْ للدراسات الاستراتيجية
رئيس مركز الإبداع والابتكار والوعي المجتمعي
في مسرح الصراع المتجدد على أرض فلسطين حيث تتقاطع الاعتبارات الإنسانية مع الحسابات السياسية وُقّع اتفاق لتبادل الأسرى بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي جاء الاتفاق في لحظة ضاغطة على جميع المستويات ميدانياً دولياً وشعبياً ليقدم بصيصاً من الأمل في نفق ممتد من الألم .
لكن يبقى التساؤل الملحّ
هل نحن أمام اتفاق سلام دائم يحمل ملامح إنهاء شامل للنزاع؟ أم أننا بصدد صفقة إنسانية ذات طابع مؤقت لا تتعدى كونها هدنة مؤقتة ذات سقف زمني وميداني محدود؟
ولأن التاريخ لا يكتب بالانفعال بل بالتحليل الهادئ والاستبصار القانوني فإن هذا التقرير يحلل أبعاد الاتفاق ما تحقق منه ما لم يتحقق وما يجب تحصينه قانونياً وسياسياً حتى لا يتحول إلى نكسة جديدة في سجل المحاولات العديدة .
أولاً : أهمية الاتفاق وطبيعته المرحلية
الاتفاق الذي تم برعاية قطرية مصرية أمريكية انطلق تحت عنوان إنساني لكنه في جوهره اتفاق سياسي بطبيعته وأبعاده ينقسم إلى ثلاث مراحل تبدأ بوقف إطلاق نار مؤقت وتبادل محدود للأسرى على أن تتسع المرحلة لاحقاً لتشمل انسحاباً إسرائيلياً تدريجياً وإعادة إعمار غزة وعودة المهجرين .
حتى الآن تم تنفيذ الشق الأول من المرحلة الأولى وبرزت مؤشرات على التزام متبادل حذر ولكن دون إعلان صريح عن التزام نهائي أو خطوات لبناء سلام دائم مما يجعل هذا الاتفاق خطوة ضرورية لكنها غير كافية في مسار طويل .
ثانياً : قضية رفع أسماء أسرى بارزين وتأثيرها على جوهر الاتفاق
من النقاط التي أثارت جدلاً واسعاً بل وألقت بظلالها على شرعية الاتفاق الشعبي ومصدقيته رفع أربعة أسماء من أبرز الأسرى الفلسطينيين من كشوفات الصفقة وعلى رأسهم :
• مروان البرغوثي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح وأحد الرموز الوطنية ذات الثقل التاريخي .
• أحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذو المكانة السياسية والتنظيمية الرفيعة .
• بالإضافة إلى اثنين آخرين من القيادات ذات البعد الرمزي في الحركة الوطنية الأسيرة .
هذا الإقصاء غير المعلن شكّل صدمة لدى الشارع الفلسطيني بل اعتبره كثيرون محاولة لتحييد الرموز الفاعلة في المشروع الوطني الفلسطيني من أي صفقة مستقبلية وهو ما أضعف نسبياً التأثير المعنوي الإيجابي للصفقة وألقى بأسئلة مقلقة حول حدود المفاوض الفلسطيني وقدرته على فرض شروطه أو حماية رموزه مع ذلك يبقى من المهم توضيح أن بعض مصادر الوساطة أرجعت رفع الأسماء إلى “تعقيدات فنية” مرتبطة بالمواقف الإسرائيلية الداخلية وليس إلى رفض مبدئي لإطلاقهم وهو ما قد يُبقي الباب موارباً لبحث قضاياهم في مراحل لاحقه أو عبر قنوات تفاوض موازية .
ثالثاً : الأبعاد القانونية للاتفاق وضمانات عدم المساءلة
من الناحية القانونية يُعد الاتفاق متسقاً مع مبادئ القانون الدولي الإنساني ولا يخرج عن نطاق ما تجيزه اتفاقيات جنيف ولا يُخالف الأعراف الدولية التي تعترف بآليات تبادل الأسرى في النزاعات المسلحة ومع ذلك لضمان تجنب أي مساءلة قانونية أو قضائية مستقبلاً يجب التنويه إلى النقاط التالية :
1. الاتفاق لا يشمل بنوداً تمنح العفو الشامل لأي من الأطراف وبالتالي فإن الحقوق الفردية للضحايا تبقى محفوظة قانونياً .
2. لا يتضمن إسقاطاً للمسؤولية الجنائية الدولية خصوصاً في ما يخص الجرائم المصنفة ضمن القانون الدولي كجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية .
3. يجب تحصين الاتفاق ببنود واضحة تؤكد أن الإفراج عن الأسرى تم وفق معايير إنسانية وضمن آليات خاضعة لرقابة دولية وليست خاضعة لتقديرات سياسية تفتح باب الطعن ومن المهم أن تتولى جهة قانونية مستقلة مراجعة الصيغ النهائية لضمان أن النصوص لا تتعارض مع التزامات الأطراف أمام المحكمة الجنائية الدولية أو مؤسسات القانون الدولي ذات الصلة .
رابعاً : الدور المصري •• الركيزة الهادئة للاتزان الإقليمي
لا يمكن الحديث عن الاتفاق دون الإشادة بالدور المصري الذي ظل حاضراً بهدوء ثابتاً دون ضجيج قوياً دون صدام .
مصر لم تكن مجرد وسيط بل كانت الضامن الأخلاقي والسياسي لاستقرار المنطقة ومفتاح توازن بالغ الدقة بين قوة الفعل وواقعية النتائج .
أبرز ما ميّز الحضور المصري :
• التمسك بالثوابت القومية العربية ودعم الحقوق الفلسطينية دون مغامرات خطابية .
• القدرة على التحدث بلغة يفهمها جميع الأطراف (واشنطن وتل أبيب وغزة ورام الله والدوحة)
• الاستعداد لتحمّل مسؤوليات ما بعد الاتفاق سواء في جهود إعادة الإعمار أو دعم الحلول السياسية طويلة الأمد .
إن مصر بخبرتها العميقة في هندسة التوازنات قادرة على تحويل هذا الاتفاق إن أرادت الأطراف إلى بداية مسار سلام متدرج يجمع بين الأمن والكرامة ويحمي مصالح الجميع دون أن يسقط جوهر القضية الفلسطينية .
خامساً : التوصيات الاستراتيجية
- استكمال المرحلة الثانية والثالثة من الاتفاق في إطار زمني واضح وتحت إشراف دولي معلن مع ضمان عدم الإخلال ببنود التنفيذ .
- إعادة فتح ملف الأسرى الذين تم استثناؤهم وفي مقدمتهم البرغوثي وسعدات على طاولة التفاوض السياسي والحقوقي كقضية غير قابلة للتنازل .
- تثبيت الدور المصري كضامن دائم عبر اتفاق إطاري يُقرّ بدور القاهرة في الرقابة والوساطة وإعادة الإعمار .
- دعم وحدة الصف الفلسطيني عبر صياغة موقف تفاوضي مشترك لا يقفز على أحد ولا يقصي أحد .
- إنشاء آلية رقابة قانونية محايدة تُشرف على الإفراج وتمنع أي عمليات إعادة اعتقال مخالفة .
- التحرك نحو سلام عادل قائم على قرارات الشرعية الدوليه لا على صفقة هدنة تمهّد لجولة صراع جديدة .
فى النهايه •• إن اتفاق تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل رغم محدوديته الزمنية والوظيفيه لا يُمكن إنكار أهميته الإنسانية والمعنوية خصوصاً في ظل معاناة الأسرى وذويهم لكنه يظل حتى هذه اللحظة أداة تهدئة لا مشروع سلام وهدنة جزئية وليست تسوية شاملة .
ولكي لا يتحوّل الاتفاق إلى مجرد فاصل إنساني قصير قبل عودة دورة العنف يجب أن يُحاط بضمانات سياسية وقانونية ومجتمعية تعزّز فرص تحوّله إلى نقطة انطلاق لمسار سياسي أكثر نضجاً وإنصافاً .
ولا بد أن تبقى الأسماء التي رُفعت من الصفقة وفي مقدمتها البرغوثي وسعدات شاهداً على أن القضية لا تُقايض وأن الرموز الوطنية ليست أوراق تفاوض بل أعمدة مشروع التحرر الوطني ولن يكتب لهذا المسار النجاح دون صوت العقل والحكمة المصرية التي طالما أثبتت أنها قادرة على تحويل الدمار إلى جسور والصراعات إلى حلول والخزلان إلى أمل .