محطات في حياتي.. المحطة السادسة: يوم الوفاء.. حين يلتقي الجيل الذي تربى بالجيل الذي تعلّم
حينما يتجسد الوفاء في لحظة تاريخيه

بقلم: لواء/ د. أحمد زغلول مهران
رئيس الهيئة الاستشارية العليا لمركز «رع» للدراسات الاستراتيجية
رئيس مركز دعم الإبداع والابتكار والوعي المجتمعي
هناك محطات في حياتنا لا تُقاس بالأيام ولا تُسجَّل في ذاكرتنا فقط بل تُخلَّد في الوجدان كأنها نُقشت على جدران الذاكرة تلك المحطات التي تعيد إلينا عبق الماضي وتستحضر أمامنا ملامح الوجوه التي صنعت الفرق في مسيرة العمر ومن بين تلك المحطات التي لا تُنسى كانت محطتي السادسة؛ يوم الوفاء في مدرسة العائلة المقدسة بحلوان ذلك اليوم الذي لم يكن مجرد احتفال عابر بل كان لحظة امتزج فيها الحنين بالعِرفان والماضي بالحاضر والعلم بالتربية فانبثقت من بين جدران المدرسة رسالة خالدة عن معنى الوفاء الحقيقي
لقد كان هذا اليوم فكرة مبدعة ورؤية تربوية نادرة أطلقها ناظر المدرسة آنذاك مسيو إلياس صادق معوض – رحمه الله الرجل الذي جمع بين صرامة القيادة التربوية ورحابة القلب الإنساني قرر أن يُقيم يوماً مختلفاً أُطلق عليه لاحقاً “يوم الوفاء” يوم أراد به أن يجمع أبناء المدرسة من خريجين وقدامى ومعلمين وطلاب حاليين في احتفالية تمثل معنى التواصل بين الأجيال وعمق الانتماء للعلم والتربية والمكان .
المحور الأول : فكرة ولدت من روح العطاء
لم يكن “يوم الوفاء” فكرة بروتوكولية أو احتفالاً شكلياً كما نرى في كثير من المؤسسات بل وُلد من إيمان عميق لدى مسيو إلياس صادق بأن التعليم لا يُقاس بما يُكتب في الكراسات بل بما يُزرع في القلوب والعقول أراد هذا اليوم أن يكون جسراً بين الماضي والحاضر وأن يُعيد إلى المدرسة وهجها الذي يربط أبناءها مهما تفرّق بهم الزمن حيث تم الإعداد لهذا اليوم بعناية فائقة فالمكان اكتسى بثوبٍ من البهجة والوجوه امتلأت حنيناً والطلاب الحاليون كانوا يتهيأون بفخر ليقدموا فقراتٍ فنية واستعراضية وشعرية تروي حكاية المدرسة وتاريخها المجيد كانت الساعات تمر طبقاً لبرنامج مُنسق ومهيبٍ من النظام والتألق وكأن المدرسة أرادت أن تقول نحن لا ننسى أبناءنا مهما تعاقبت السنين .
المحور الثاني : مزيج من الفن والعرفان
تخلل الاحتفال فقرات غنائية وشعرية واستعراضية أبدع فيها طلاب المدرسة الحاليون عبّروا فيها عن حبهم للعلم والوطن والمعلمين كانت الكلمات تنساب صافية على لسان الصغار تذكّر الحضور بأيام الطفوله والبدايات الأولى على مقاعد المدرسه كما أُلقيت كلمات مؤثرة من الخريجين القدامى الذين عادوا إلى مدرستهم بعد سنوات من النجاح في مجالات مختلفة تحدثوا عن تجاربهم وعن لحظات تعلموا فيها معنى الالتزام والأخلاق قبل الدرجات والشهادات كانت كلماتهم بمثابة رسائل وفاء وامتنان نقلت للحاضرين فلسفة تربوية نادره وهى أن المدرسة ليست مبنىً يُغلق بعد التخرج بل بيتاً لا تُطفأ أنواره أبداً .
المحور الثالث : الجملة التي صنعت المعنى
بلغ الحفل ذروته حين جاء وقت التكريم لحظة انتظرها الجميع حيث تقدَّم مسيو إلياس لتكريم الخريجين الذين تقلّدوا مناصب رفيعة ووظائف محترمة في الدولة كلٌّ في مجاله لكنهم جميعاً أبناء مدرسة واحدة
تم تسليم المكرّمين ميدالية تذكارية نُقش عليها بخطٍّ جميل :
“إهداء إلى جيل تميّز خُلقاً وعلماً”
كانت تلك العبارة كأنها شعلة ضوء تُعيد تعريف معنى النجاح الحقيقي فالمدرسة لا تفتخر بعدد الأوائل بقدر ما تفتخر بأخلاق أبنائها وإنسانيتهم
وعندما أثنى أحد الحاضرين على هذه الجملة المُلهمة أجاب مسيو إلياس بإبداع وصدق قائلاً :
“أنتم جيل تربى قبل أن يتعلم”
جملة تختصر فلسفة التربية الأصيلة التي ميّزت ذلك الجيل وتُلخص رؤية تربوية غابت في زحمة التعليم الحديث فقبل أن نُغذي العقول بالمعرفة علينا أن نُهذب النفوس بالقيم تلك كانت رسالة المدرسة ورسالة المعلم الراحل الذي أدرك أن العلم بلا أخلاق سلاحٌ خطير وأن الأخلاق بلا علم لا تصنع حضارة .
المحور الرابع : رمزية المكان والزمان
لم يكن اختيار المدرسة العريقة مدرسة العائلة المقدسة بحلوان صدفة فهي من المؤسسات التعليمية التي حملت عبر العقود رسالة إنسانية وتربوية سامية داخل جدرانها تربى أجيال من العلماء والمفكرين والمهندسين والأطباء والقيادات المجتمعية الذين ساهموا في بناء الوطن كانت تلك المدرسة نموذجاً للمدرسة التي تُربي قبل أن تُعلّم وتُغرس القيم قبل أن تُلقّن المعارف
وفي يوم الوفاء تذكّر الجميع أن مصر كانت ولا تزال مصر المعرفة مصر زويل ويعقوب وحسين باشا هيكل وغيرها من الرموز التي صنعت من التعليم رسالة ومن الأخلاق دستوراً
لقد أعاد ذلك اليوم إلى الأذهان صورة مصر الحقيقية مصر التي تربّي أبناءها على الحُب والعلم والانتماء .
المحور الخامس : الدلالات التربوية والإنسانية ليوم الوفاء
يُعدّ هذا اليوم نموذجاً فريداً يمكن أن يُحتذى به في المؤسسات التعليمية كافة، إذ جمع بين الوفاء والعلم والانتماء في مشهد واحد ومن أهم الدلالات التي يمكن استخلاصها من هذا الحدث :
١- استمرار الانتماء بعد التخرج :
لقد أظهر الخريجون حبهم العميق لمدرستهم واعتزازهم بها وهو ما يؤكد أن التربية الحقيقية تخلق ارتباطاً وجدانياً لا يزول مع مرور الزمن .
٢- احترام رموز التربية والتعليم :
تكريم المعلمين القدامى والاحتفاء بجهودهم كان دليلاً على أن المدرسة لا تنسى من زرع فيها بذور الخير والعلم .
٣- غرس مفهوم القدوة :
رؤية الخريجين الناجحين وهم يُكرَّمون أمام الطلاب الحاليين تُولد في نفوس الصغار طموحاً وإصراراً على أن يسيروا على دربهم .
٤- الربط بين الأجيال :
الحفل جمع أجيالاً مختلفة تحت سقف المدرسه وهو ما يعيد جسور التواصل بين الماضي والحاضر ويُعزز روح الاستمرارية .
٥- التركيز على الأخلاق كركيزة للعلم :
العبارة الخالدة “تربّى قبل أن يتعلم” تُعيد التذكير بأهمية التربية كمنطلق لأي عملية تعليمية ناجحة .
المحور السادس : الإيجابيات والدروس المستفادة
من خلال هذه التجربة الثرية يمكن استخلاص عدد من الإيجابيات الجوهرية التي تمثل دروساً عملية لأي مؤسسة تعليمية أو تربوية فى الاتى :
• تعزيز مفهوم الانتماء المؤسسي :
الطلاب الذين يشعرون بأن مدرستهم بيتهم الأول سيكونون أكثر التزاماً وولاءً في حياتهم العملية .
• تحفيز الإبداع لدى الطلاب :
مشاركة الطلبة في إعداد فقرات اليوم عززت لديهم روح المبادرة والابتكار والعمل الجماعي .
• تقدير الماضي كأساس للمستقبل :
إدراك أهمية الجيل السابق يجعل الجيل الجديد أكثر احتراماً للتجارب السابقة وأكثر وعياً بمسؤولية الاستمرار في البناء .
• إحياء القيم الإنسانية داخل التعليم :
كان الحفل رسالة واضحة بأن التعليم لا ينفصل عن الإنسانية وأن العرفان والاحترام هما ركيزتا النهضة التعليمية .
المحور السابع : توصيات للمستقبل
١- إعادة إحياء “يوم الوفاء” سنوياً في المدارس والجامعات ليصبح تقليداً مؤسسياً يعزز روح الانتماء والعرفان .
٢- توثيق قصص النجاح للخريجين القدامى ليكونوا قدوة للأجيال الجديدة .
٣- تشجيع التواصل المستمر بين الطلاب والخريجين عبر منصات إلكترونية ولقاءات دورية .
٤- إدراج قيم الوفاء والتربية ضمن المناهج التربوية لتصبح جزءاً من فلسفة التعليم .
٥- تكريم المعلمين المتميزين والأوائل القدامى في كل مناسبة تعليمية لأنهم النواة التي تُثمر أجيالاً تنفع الوطن .
في النهاية •• هذه المحطة المضيئة من محطات العمر يقف الوجدان وقفة إجلال أمام يومٍ لم يكن مجرد احتفال عابر بل كان رمزاً خالداً لمعنى الوفاء الحقيقي بين جيلٍ صنعته القيم قبل أن تصقله المعارف لقد أعاد “يوم الوفاء” في مدرسة العائلة المقدسة بحلوان إلينا الذاكرة الجميلة حيث تلتقي الأجيال على مائدة واحدة يجمعها الحب والاحترام والتقدير وتتشابك فيها الأيدي بين من علَّم بالأمس ومن تعلَّم ليُعلِّم اليوم .
إن كلمات ناظر المدرسة الراحل مسيو إلياس صادق معوض — رحمه الله — “أنتم جيل تربى قبل أن يتعلم” ستظل دستوراً تربوياً خالداً يلخص فلسفة التعليم في أبهى صورها فالتربية كانت دائماً هي الجذر الذي يمد شجرة العلم بالحياة وهي القيمة التي لا يزول أثرها مهما تغيّرت الأزمنة لقد أثبت ذلك الجيل
أن الأخلاق والعلم جناحان لا يطير بهما الإنسان نحو المجد إلا من خلالهما .
يوم الوفاء لم يكن مجرد تكريم رمزي بل كان رسالة صريحة إلى الأجيال الجديدة بأن الوفاء فضيلة وسُنه حميده وأن تقدير الماضي هو أول خطوة نحو بناء مستقبل مشرق لقد كان الحفل مناسبة تذكيرية بأن المدرسة ليست فقط مكاناً للتلقين بل وطناً صغيراً تتكون فيه ملامح الشخصية وتُزرع فيه بذور الانتماء والعطاء .
ومن هنا فإن دروس “يوم الوفاء” لا تقتصر على ذكريات جميلة بل تمتد إلى دعوة مستمرة لتجديد العهد مع مبادئ التعليم الأصيل ومع النماذج التربوية التي بنت أجيالاً من القيم والعلم والإبداع إنها دعوة لأن تعود مدارسنا إلى رسالتها الأولى أن تربي قبل أن تُعلّم وأن تُنير قبل أن تُدرّس
إن مصر التي أنجبت زويل ويعقوب وغيرهم من الرموز لا تزال قادرة على أن تُنجب أمثالهم طالما ظل في مدارسها معلمون أمناء ومخلصون وخريجون أوفياء يحملون راية الوفاء جيلاً بعد جيل ويبقى “يوم الوفاء” شاهداً على أن القيم لا تُدرَّس فقط في الكتب بل تُورث في القلوب فكل تكريم وكل كلمة شكر وكل لحظة تذكّر بالماضي هي في جوهرها حجرٌ جديد يُضاف إلى صرح مصر العلم والمعرفة والإنسانية .
إنها مصر التي تزرع في أبنائها أن الوفاء ليس ذكرى تُروى بل مسيرة تُكمَل وما أجمل أن تُختتم هذه المحطة بوصية رمزية :
“ليكن الوفاء نهجاً والعلم سلاحاً والتربية جذراً لا ينقطع فبها تُبنى الأوطان وتُخلّد الأجيال .”







